تحدثنا في الحلقة الماضية عن تحول الرواية السعودية إلى الفني عند كاتبين، هما حامد دمنهوري، وإبراهيم الناصر، واليوم سنكمل الحديث مع الناصر في مسيرته الروائية، كان عمل الناصر الأول رواية (ثقب في رداء الليل)1960 م، وقد سبقها بمجموعتين قصصيتين(أرض بلا مطر وأمهاتنا والنضال) والعمل الثاني(سفينة الموتى)1969م، ويعتبر العمل الثاني نقطة انطلاقة بالنسبة للناصر، فقد توفرت في هذا العمل الكثير من الشروط الفنية الحديثة، من حيث(اللغة الروائية، والحدث،والحبكة)،(11) فكان عملاً متكاملاً سردياً؛ ولم تخل هذه الفترة من أعمال تقليدية، على غرار الأعمال التي رافقت الفترة التحولية الأولى(12)، وفي ظني: أن هذه الأعمال كانت مخبأة في الأدراج إلى أن حانت الفرصة لإصدارها، وهؤلاء الكتاب كانوا معاصرين لهذين الكاتبين(الدمنهوري والناصر)، مثل محمد زارع عقيل المتأثر بجرجي زيدان، في اللغة والبناء، فق أصدر عقيل في تلك الفترة روايتين، وهما أشبه بالقصة الطويلة، بعناوين زيدانية(ليلة في الظلام) و(أمير الحب) 1960م، صدرتا عن دار الهلال في القاهرة؛ وأصدرت هند صالح با غفار، رواية سينمائية بوليسية، بعنوان(البراءة المفقودة)، سنة 1972،وأصدرت عائشة زاهر أحمد رواية بعنوان(بسمة من بحيرات الدموع)، سنة 1979،وأصدر حمزة أبو الفرج أقاصيص إخبارية طويلة، حسبت على الرواية، من حيث الظرف التاريخي، وحسبها بعض الدارسين على الرواية، على سطحيتها وغثاثتها، ومن حق الكاتب أن يحسب على المرحلة كل ما صدر فيها، لكن يجب على الدارسين تحليل هذه الأعمال، للوقوف على نسبتها الفنية؛ وتظهر في هذه الفترة أعمال موجهة سلفاً للنصح والإرشاد على مذاهب كتاب سابقين، عادت بالرواية إلى الوراء، وكان السبب في ظهورها وجود النشر والتوزيع، وفي مقدمة الناشرين لهذه الأعمال(تهامة) التي نشرت معظم هذا الإنتاج في مرحلة التسعينيات، منها: (فتاة من حائل) للدكتور محمد عبده يماني1980،التي أسرف المجاملون في مدحها، إلا الدكتور يوسف عز الدين الذي نقدها نقداً موضوعياً أعجب كاتبها قبل غيره(13)، ويصدر عبد الكريم محمود الخطيب روايته(حي المنجارة) في العام ن فسه ،ويصدر فؤاد صادق مفتي رواية بعنوان(لحظة ضعف)، في العام نفسه، يقلد فيها الكاتب الإسلامي نجيب الكيلاني في روايته(فطيرة صهيون)،ويصدر عصام خوقير(الدوامة) ويصدر سيف الدين عاشور رواية بعنوان(لا تقل وداعاً) تكاد تكون نقلاً عن رواية شكبير(روميو وجولييت)، التي استقى مادتها من الأسطورة البابلية،(الحب الخالد)،أما طاهر عوض سلام الذي أصدر بعض الأعمال في هذه الفترة، مثل: (الصندوق المدفون، وأشرقت الشمس، وقبو الأفاعي، وعواطف محترقة)، وهو تلميذ وفي لمحمد زارع عقيل، وعقيل تلميذ زيدان، فغلبت على أعماله التقليدية والخيال المجنح؛ وهذه الأعمال تميل إلى التوثيق التاريخي؛أما الرومانسيات فنجدها عند عبد الله جفري في عمله الأول(جزء من حلم)، ويقتفي هذا الأثر خالد باطرفي في روايته(ما بعد الرماد)، وهدى الرشيد في روايتها(غداً سيكون الخميس)، ونجد في هذه الأعمال عدة نتائج، منها:
أولاً، النتائج جاهزة قبل كتابة العمل، وهذا نوع من الرواية يسمى) النقل)،يخلو من الفنية والبناء الروائي واللغة الجاذب للمتلقي، فلا تسلسل للحدث، والشخصيات مركبة، والحكاية مفتعلة، حتى وإن كانت واقعية، لأنها منقولة من حدث سابق للفعل الروائي.
ثانياً،يغلب على هذه الفئة تقليد الأعمال السابقة، وتركيب أحداث مشابهة.
ثالثاً،لغة الرواية ضعيفة(14)، يغلب عليها السرد التاريخي، والحكاية الشعبية غير الموظفة، والأسلوب الصحفي الإخباري.
ولم تخل هذه الفترة من ظهور أصوات روائية جديدة أتقنت العمل الروائي، ووظفت الأحداث توظيفا جيداً، ونقلت الحدث بلغة روائية حديثة، أشاد النقاد والدارسون بها، في دراساتهم الحديثة(15)، عبد العزيز مشري، وأمل محمد علي شطا، وحمزة بوقري، وكاتب هذا البحث، في روايته الثانية(16) وعبد العزيز الصقعبي، (رائحة الفحم)، مع استمرا إبراهيم الناصر في الكتابة، ومع أن القصة القصيرة التي كانت مزدهرة في الثمانينيات والتسعينيات لم تكن منافساً عنيداُ، كما ذكرنا، إلا أن الرواية لم تسيطر على الموقف إلا بعد ضعف القصة القصيرة وتراجع الشعر- بشكل عام- وانشغال النقد بالشعر الحديث وفشل ما يسمى بقصيدة النثر،وفي هذا الفراغ الأدبي أخذت الرواية في الصعود لسد حاجة المتلقي الفكرية، من جهة، وقدرة الرواية على إيصال الفكرة إلى المتلقي، ووجود الوعي الجمعي في أوساط المجتمع الذي قرب من الاحتفال بآخر أمي في البلاد، لكن هذه الفترة التي سنتحدث عنها لم تسلم من غوغائية الإنتاج لجذب الكثير من الكتاب للتجريب من خلال هذا السوق، فنجح البعض واخفق الكثير للأسباب التي سنتحدث عنها في الحلقات القادمة؛ولم يأخذ الدارسون والنقاد لهذه الأعمال في حساباتهم تشكل الفن الروائي وآنية الزمن، فالرواية ليست آنية كالقصيدة والقصة القصيرة بل تحتاج إلى زمن قد يطول وقد يقصر، وقد يمتد لزمن تكتمل فيه أركان الزمن الروائي الممتد على حدود المكان الروائي، فإذا تغير الزمن، وتغيرت حدود المكان لم يعد للرواية قيمة فنية، فادخل في ملفات التاريخ، وتصبح سرداً مفرغاً من معناه؛ فمنذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ظهرت التحولات الاجتماعية واضحة في المجتمع،من حيث الزمان والمكان، وبالتالي في الرواية، وقد كانت الكتابات السابقة تعد إرهاصا لهذه التحولات، فقد ظهرت الكتابات في الثمانينيات وما قبلها تنظِّر لظهور تعليم المرأة تعليماً عالياً ودخول سوق العمل،فرواية فؤاد صادق مفتي(لم يعد حلماً 1983م) تبشر بدخول المرأة سوق العمل الحر، ورواية أمل محمد شطا،تبشر بالمرأة الموظفة، ورواية إبراهيم الناصر(عذراء المنفى) تبشر بفتاة مثقفة، وهناك الكثير من الكتاب رسموا أحلاماً لهذا التحول نحو العلم والمعرفة، ولم تكن المرأة في الجزيرة العربية معزولة عن العمل منذ القدم، لكنه كان عملاً مشتركاً بين المرأة وزوجها وأهلها، بل يتعدى ذلك في بعض الأحيان إلى الأعمال الحكومية(17) ومجتمع الجزيرة العربية قابل للتحول بسرعة، بالرغم من القيود التي تفرض على المرأة بين الحين والآخر.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244