يقوم الحوار بمهمة التعبير عن الزمان في المسرحية المقروءة والممثلة على السواء، حيث يبث المؤلف كثيراً من الإشارات الزمانية في الحوار وغايتها تحديد الإطار الزماني للحكاية أو تحديد زمان المشهد أو التوقيت الزمني للأحداث.. الخ.
وقد يتجاوز الحوار هذه الوظيفة الإبلاغية إلى وظيفة شعورية تلمس مشاعر الشخصيات وموقفهم من الوقت وإحساسهم بمرور الزمن وانقضائه. ويغدو الحوار هنا مكثفاً عميقاً لأنه يؤدي وظيفتين في الوقت ذاته هما التعبير عن الزمان ونقل شعور الشخصية تجاهه.
والإحساس بالزمن هنا إحساس شعوري تتحكم في قياسه العواطف و(الانفعالات التي نشعر بها تمدده وتبسطه، والتي نوحي بها تقلصه)(1).
ومن أكثر المسرحيات الشعرية إحساساً بالزمن: مسرحية (الأميرة تنتظر) لصلاح عبدالصبور، ويعود تفاعل شخصياتها مع الزمن وإحساسها به إلى طبيعة الموضوع الذي يرشح حضوره في الحوار.
ومن أبرز مظاهر الإحساس بالزمن فيها، ما يلي:
- شيوع المعجم الزمني بألفاظه ودلالاته في الحوار مما يعني ثقل وطأة الزمن على الشخصيات وتفاعلها معه. وتتجلى أولى مظاهر هذه السيطرة بدءاً من العنوان نفسه، فالانتظار كلمة ترتبط بالوقت، وقد شاع في الحوار ألفاظ الزمن الطبيعي (الفيزيائي) مثل: (الأعوام، الخريف، الأيام، اللحظات، الهنيهات، الليل، النهار، الفجر، الصبح، المساء)، كما شاعت مفردات ذات صلة وثيقة بالزمن مثل: (يستعجلنا، الموت، العيش، ماضيها، الظلام، الظلمات، انتظاري، ننتظره، تعجلتُ، الضوء، النور، أخيراً، الشمس، العمر، سيجيء، هل يأتي؟).
- إسباغ المشاعر على الزمن الفيزيائي بحيث نستشف منه أحاسيس الشخصيات ومشاعرها تتجه عجلته، وهنا تتجاوز الإشارة الزمنية وظيفة التوقيت فحسب إلى وظيفة نقل الإحساس، ومن ذلك: الإحساس بالكبت والجدب واليأس من جراء إقامة الأميرة ووصيفاتها في وادي السرو، وقد وصلنا هذا الإحساس من خلال الرمز.
تقول الوصيفة الأولى:
خمسة عشر خريفاً مذ حملتنا في العربة(2)
وتقول الوصيفة الثانية:
خمسة عشر خريفاً مذ فارقنا قصر الورد(3)
فهنا تحدد الإشارة الزمنية الاستغراق الزمني لإقامة الأميرة ووصيفاتها في هذا الوادي المهجور، وهي مدة تقدر بخمسة عشر عاماً، ولا تحسب هذه المدة الزمنية بالأعوام بل بالخريف. وفي الكلمة رمز وإيحاء نفسي بمشاعرهن الكئيبة، إذ (المعتاد أن تحسب السنين بالربيع على أساس توقع الخير، أما الخريف فهو فصل الجفاف وعدم الازهار، فالسنوات التي تحسب به معناها أنها سنوات عصيبة لم تقدم خيراً لمن مرت عليهم)(4)
ومن قبيل الرمز أيضاً حساب الوقت بالظلام لا بالساعة، كهذا الحوار:
الوصيفة الأولى: ما الوقت الآن؟
...
الوصيفة الثانية: خمسة عشر ظلاماً(5)
وبعد فترة تسأل الوصيفة الأولى السؤال ذاته وتجيبها الوصيفة الثانية بعد أن تنظر إلى الكوة: سبعة عشر ظلاماً(6).
وحساب الوقت بالظلام يوحي بكآبة الحياة وقتامتها. وقد التمس بعضهم معنى رمزياً في الإشارة الزمنية (سبعة عشر) من أنها دلالة سياسية تحمل في طياتها توقاً للخلاص من أوضاع ألمت بالبلاد من ثورة 1952م وحتى عام 1969م تاريخ كتابة المسرحية(7).
- ومن مظاهر الإحساس بالزمن قياسه بالعواطف والانفعالات والمشاعر وليس بوحدات قياس الزمن المألوفة (ونحن جميعاً نعرف أن خبراتنا الخاصة تشكل أساساً ضعيفاً لقياس الزمن بموضوعية، فهو تارة يمر بسرعة وطوراً ببطء، ونحن تارة نعي في عمق كل ثانية تدق، وطوراً يبدو علينا النسيان التام أو اللاوعي بمرور الزمن)(8).
والإحساس بالزمن هنا يتأثر بالخبرة، أي أنه انعكاس أو نتاج لمشاعر إنسانية لا معايير قياسية ثابتة وموضوعية.
ومن ذلك: شعور الأميرة ببطء الوقت لطول النهار وامتداده لأنها اعتادت لقاء عاشقها ليلاً.
تقول الأميرة للوصيفة الثانية (التي تقوم بدور عاشقها)، وقد أتاها كالمعتاد سراً في جنح الظلام:
وأخيراً جئت بعد أن جن نهاري بشقائي وانتظاري وتعجّلتُ الهنيهات إلى الليل..
تمنيت لو استطعت اختصار الأفق الممتد في لحظة ضوء تنطفي في نفخة مثل انطفاء الشمعدان آه لو أملك للشمس عدوى الشمس، أمراً وقضاء آه لو أملك أن أحبسها تحت سريري حيث لا تسمع ديك الفجر إذ يعلن ميلاد الضياء(9)
فالزمن هنا زمن نفسي تقيسه العواطف والانفعالات، ويبدو طويلاً ممثلاً على مشاعر الأميرة، وقد ساهم الحوار في نقل هذا الإحساس ابتداء من الاستهلال بكلمة (أخيراً) وهي تدل على استبطاء حدوث فعل المجيء، فالفعل (جئت) تحقق بعد فترة من الانتظار طويلة في شعور الأميرة. وتجسد الاستعارة التشخيصية (جُنَّ نهاري) تؤتّر الأميرة وضجرها من طول النهار، وقد انعكست هذه المشاعر على النهار نفسه فاعتراه الجنون من انتظارها وترقبها رحيله.
ويتنامى هذا الإحساس باستعجال الهنيهات إلى الليل، (والهنيهة)(10)، وحدة زمنية صغيرة وشعور الأميرة بثقل وطأتها - على الرغم من قصرها - مبالغة طريفة في تجسيد الإحساس بالملل لأن التعبير بالزمن الأدنى أقوى في نقل هذا الإحساس من استعجالها وحدة زمنية أطول كالساعات مثلاً.
وتطرح الأميرة تمنياً غريباً ولَّدته مشاعر الانتظار، وهو تمنيها تعديل الزمن الفيزيائي للنهار بمدته المعروفة إلى زمن قصير يعدل لحظة ضوء، وتصوغ هذه الأمنية في صورة بصرية تتخيل فيها النهار ضوء شمعدان أُضيء لحظة وسلب ضوءه في نفخة، وجمال الصورة يأتي من التناسب بين طرفيها ضياء النهار وضوء الشمعدان إذ كلاهما يدور حول النور والظلمة. وتسترسل الأميرة في التمني الغريب بحبس الشمس، وفي هذه الاستعارة التشخيصية تتحول الشمس إلى سجين في قبضة الأميرة (السجان) وفي أسْر الشمس حبس للضياء وموت للنهار، مما يعني تحول الحياة إلى ليل سرمدي، وتفصل الأميرة معالم الصورة باختيارها مخدعها ليكون سجناً للشمس، وهو مكان تحكم السيطرة عليه لخصوصيته ووثوقها به آمنة ألاّ تسمع الشمس نداء ديك الفجر.
وهكذا نلحظ مما مضى أن التعبير عن الظاهرة الزمانية يكتسي بالعواطف والمشاعر والأحاسيس.
(1) هانز ميرهوف، الزمن في الأدب، ص 20
(1) ديوان صلاح عبدالصبور، (الأميرة تنتظر) ص 356
(2) السابق.
(3) د. نعيمة مراد محمد، المسرح الشعري عند صلاح عبدالصبور، ص 417، وانظر: د. لويس عوض، الحرية ونقد الحرية، ص 122
(4) ديوان صلاح عبدالصبور، (الأميرة تنتظر) ص 357، وانظر: د. نعيمة مراد، المسرح الشعري عند صلاح عبدالصبور، ص 415.
(5) السابق، ص 362
(6) ومن العلوم أن الفترة الزمنية بين التاريخين سبعة عشر عاماً، انظر: ماجد يوسف، مستويات الرمز في مسرحية (الأميرة تنتظر)، مجلة إبداع، ص 22، العدد 10، السنة الثالثة، أكتوبر 1985م
(7) هانز ميرهوف، الزمن في الأدب، ص 18
(8) ديوان صلاح عبدالصبور، (الأميرة تنتظر)، ص 397
(9) الهنيهة والهنية أي قليلاً من الزمان، اللسان، (هـ.ن.ا).