الشمس بحيرة قانية عند المغيب والقافلة تسير بخطوات وتيدة عند منحنى لأفق على أطراف الربع الخالي. والجمال العصافير ترمي بأعناقها إلى الزرقة حيث تغتسل بريح الشيح والخزامى، وعامر نبته من القحوان الغضة في غابة الأشجار المتشابكة يشعر بخطواته تروغ في الكثيب الرملي وتكاد تنفلت مفاصله من وعورة المسالك ولفح الهجير محاولاً أن يحبس الألم المتمرد في أعماقه ويبدد أحزانه القديمة. يجب أن تشهد القافلة أمام والده الكهل بأن الولد عامر سر أبيه. وأنه لا بد أن يمحو إساءات أكثر من حبات الرمل كومها عليه ابن جلدته (عرعور) المتهور الذي قذف به إلى هذه الصحراء القاتلة.
تذكر قول زوجة أبيه: هذا الولد فاشل. لا يصلح لشيء أبداً فدارت به الأرض وقفزت إلى رأسه ذكرى تلك الحبيبة! لماذا اختطفها الموت في ريعان الصبا ليكابد بعدها قسوة الحياة وكيد النساء! وفرت الدمعة من عينه شرارة من نار، ولكن والده رد له الاعتبار حين قال: عامر رجل وسيسافر مع القافلة نيابة عني، فهو سري الكبير.
- وعندها صرخ رئيس القافلة بفزع: أيها الرجال خذوا أسلحتكم لقد داهمنا الغزو إنهم قادمون كالجراد دافعوا عن أنفسكم وأرزاقكم وكرامتكم هذه هي الساعة التي تظهر فيها رجولة الرجال.
- انتفض عامر وركض إلى حصانه واستل سيفه وأصبح يقاتل في مقدمة حماة القافلة، ولكن الكثرة غلبت الشجاعة! ولما رأى رئيس القافلة أن معظم الرجال قد فروا ولم يبق سوى عامر يقاتل بشراسة وثبات، صرخ: أهرب يا عامر! لكن الفتى ظل يقاتل ببسالة وقتل وجرح عدداً من المهاجمين فأحاط به الفرسان من كل جانب وجرحوه جراحات بليغة وتمكن أحدهم من زرع حربة في صدره فسقط على الأرض ولفظ أنفاسه، وفر اللصوص بالغنائم.
- عاد رئيس القافلة مع عدد من رجاله إلى المضارب عند ضحى اليوم التالي، وعلم أبو عامر بالهزيمة، فسأله أين عامر؟ قال له أحد الفارين: عامر هرب! أجاب أبو عامر فوراً: عامر لم يهرب، وقفز الرجل الكهل إلى ظهر جواده ولحق به بعض الفرسان إلى مسرح الموت!
- قال الأب الكهل وهو ينزع الحربة من صدر ولده: أرأيتم أن عامراً لم يهرب؟ هذا هو الموت العظيم، موت الرجال موت الصقور في كبد السماء! موت عامر، الذي حلم يوماً بحصان من القمر شاهده يتجسد له في خيوط النور المنبعث من استدارة القمر عبر قطع السحب المتناثرة حوله!!
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5064» ثم أرسلها إلى الكود 82244