** مرَّ النشاطُ المنبري بحراكٍ ملفتٍ خلال العقود الثلاثة الأخيرة بما لم يكن قبلًا وما الظنُّ أنه سيتكرر بعدًا؛ فثمة انحسارٌ لافتٌ في أرقام الحضور ونوعية الحاضرين وإن بقي لبعض النجوم المجتمعيين مَن يسعون إليهم ويُكثفون سوادَ جماهيرهم.
)) تبدلت وسائطُ التواصل؛ فلم يعد المنبر الخطابيُّ الوعظيُّ بشكلٍ خاصٍ والثقافيُّ بشكلٍ أعم الوسيطَ الأهم ،ولعل هذا سبب جوهريٌّ للتبدل؛ فالأقنيةُ الفضائيةُ والشبكيةُ وسائطُ فاعلة في انتقال المحاضر إلى الجمهور بدلًا من شدِّ رحال الجمهور إلى المحاضر مع بقاء الثراء التفاعلي الذي كان يميز المنابر في تغذية الحوار المباشر بين المرسلين والمستقبلين بشكلٍ فاعلٍ ذي صبغةٍ دائمة لا ينتهي مع إخلاء القاعة وإطفاء الأنوار.
** وكما فطنت الصِّحافةُ الورقية لمنافسة الصحافة الإلكترونية فغيرت في نسخها المطبوعة وأنشأت مواقعَ تقنيةً موازيةً فإن المعنيين بالأنشطة المنبرية - وبخاصةٍ مسؤولو الأنديةِ والجمعياتِ - مدعوون للنظر في بدائل ترفعُ عن المحاضر والحاضرين عناءَهم وتضمنُ تفاعلا موازيًا وربما متجاوزا.
** في المقابل تكثفت المجالسُ والمنتديات الخاصة المقصورةُ على مقربين من صاحب الجلسة والمنتدى وأفرادٍ قلائل ممن يُهمهم ارتيادها، وهوما يضمن تجانسًا بينهم أو على الأقل بعض قواسم مشتركةٍ تجمعهم،غير أن محدوديةَ انتشارها يجعل الفائدةَ منها أقل إضافةً إلى عدم وجود إيقاعٍ منتظمٍ يصل أطرافها،وربما عانت من هيمنة صوتٍ أو صدارة صيت.
)) من يرصدُ مثل هذه المجالس سيجد فيها النبض المجتمعيَّ الأقرب للواقع بعيدًا عن مزايدات وسائط التواصل الاجتماعي التي تُلبس الشخوص الحقيقية والافتراضية أقنعةً تواري بعض أو كلَّ خصائصهم وقد تستدعي منهم بطولاتٍ استعراضيةً كي يظهروا أمام متابعيهم بصورةٍ زاهية،مثلما هي ملأى باللغة الصاخبة وأحيانًا الفاحشة ؛ما ينفر منها كثيرين من ذوي الاتزان النفسي والمنهجية العلمية والتعامل الراقي.
** في هذه المجالس تُطرح مختلف القضايا بتفاوتٍ بين من يعرف ومن يهرف ومن غايتُه إثباتُ الحضور ومن يسعى للبحث عن الحقيقة،وفيها ما يختص بالشأن الثقافي وما تتنوع مساربُه العشوائية ولا تخلو من إثارة غبار وطرح أسئلة وتناقل معلومة وتصحيح رؤى، وفيها من ذوي الحكمة من يُعقلنون ما تشطح به الوسائط الشبكية من استثارةٍ واستعداءٍ وتزييف وقراءاتٍ متحيزةٍ أو مبتسرة.
** حملت المجالسُ هذا الدور بصورةٍ عفويةٍ نائية عن التوجيه المباشر في الوسائل الرسمية التقليدية والرقمية وعن الاستقطابِ المؤدلج والعواصف المبرمجة التي تسعى لتفتيت البناء وإثارة العداء وتحريك كوامن النفوس المعتمة مدركةً أن الصمتَ أمامها خطيئةٌ بحق الوطن.
** وربما جاز التأملُ في التعبير القرآني الكريم: ( إذ تلَقَّونه بألسنتكم ) - في القراءة المشهورة- مع أن التلقي يكون عبر الأذن توصيفًا للتجاوز في تناقل الروايات الآثمة حين افترى الأفاكون على سيدتنا عائشة رضي الله عنها،وقد يحسبُ بعضُنا “حصائدَ الألسنة” أمرًا هينًا وهو عظيم وعند الله سيتحاكمون.
** الكلامُ ضِرام.