03-10-2013

الصورةُ القاصرة

** إذا صحَّ ما يرويه مختصو التراث من أن المنشورَ منه لا يتعدى سبعةً في المئةِ بينما بقيتُه مخطوطةٌ ومتناثرةٌ في مكتبات العالم الأدنى والأقصى فإن الصورةَ حوله قاصرةٌ لا تكفي للاتكاءِ عليها من أجلِ إطلاق أحكامٍ قاطعةٍ تصلُ حدَّ الثوابتِ اليقينية المحدِّدة لموقفه من القضايا المتغيرة.

** قد تتبدل كثيرٌ من المسلمات التراثية لو نشر الجزءُ المتبقي، وهو ما يعني بلغةٍ موازيةٍ أهميةَ استكمال الصورةِ حول العناوينِ المُثارةِ في قضايا الدين واللغة بشكلٍ أخصَّ؛ فليس ما نعتمدُه منطقًا لرؤيةِ الأشياء والأشخاصِ إقرارًا بأُحاديةٍ أو مسارًا لتعددية.

** فينا من يقرأُ ما يودُّ الاقتناعَ به متحيزًا لوجهة نظره التي اعتنقها ابتداءً أو مُسايرةً غيرَ عابئٍ بما تحمله الضفافُ الأخرى من علاماتٍ ومعالم؛ فكأن مفقود التراث وموجود المعاصرةِ متماهيان في نقص الدلالةِ المرجعيةِ، أو كأنَّ ما لم يبلغْنا من المصادر مشابهٌ لما نشهده في الوقائع لتظلَّ عيونُنا مقفلةً في اتجاه ما لا نراه وما لا نريده على حدٍ سواء.

** وإذن فما لا نراه هو ذاتُه ما لا نريدُه، ولا بأس إن بقي التراثُ مجهولًا؛ فكشفُ مخبوئِه لن يغير كثيرًا لدى من استقر نموُّهم المعرفيُّ عند نقطة تماسٍ فتعلبت أفكارُهم أو تغلفت بحيث لا تقبل الحذفَ والإضافةَ والتعديلَ والتبديل.

** ذاك جانبٌ يعوقُ التفاعل مع التراث، مثلما تجيءُ نظرية القطيعة المعرفيةِ عائقًا آخرَ وبخاصةٍ إذا وُظفتْ لتجذيرِ نظرياتٍ تزدري الماضيَ وتُهوِّنُ من قيمته، وربما أوجز هذا أهمَّ أسباب الصراعاتِ الثقافيةِ التي شهدتها الأجيال المتعاقبةُ في معاركَ محتدمةٍ بين أنصار القديم والجديد سواءٌ أجاءت على شكل صراع الحداثة والتقليد أم اللَّبرلة والمحافظة أم الحرية والوصاية أم الشباب والشيوخ أم ما دار في فلكها من تسمياتٍ رديفةٍ ومشابهة.

** مرحلية الفكر ونموٍّ العمر كفيلان بتغيير كثير من المواقف الحّديةِ الفاصلة بين الاتجاهاتِ المتقابلة، وهو ما يوحي بعبثيةِ بعض الاختلافات وافتعال بعضها ووجود حواجز نفسيةٍ تقف بين أطرافها، ولو توافرت الحكمة والنيةُ الطيبةُ لبلغنا في اختلافاتنا جمال التنوعِ المانع من التناسخ كما من التباغض والتدابر.

** بين ما نرى وما نريد وما لا نرى ولا نريد تجيء القراءاتُ الانتقائيةُ التي تفترض في التراثِ منطقةً منزوعةَ الأهلية للمحاكمة العادلة بين من يمارسُ وصاية التقديس ولا يدعُ مجالُا للتفكيك والتشكيك وبين من يدنو به إلى سّقّط الكلام الحائل دون إعمال العقل وتجسير المسافات مع الآخر وارتياد الفضاءات النهضوية، ومن يغمضْ عينيه ويعلِ رغبته فلن يتخطى هذين الأنموذجين المتضادين.

** خسرنا معظمَ تراثِنا حين جهلنا مصادره، وخسرنا معظمَ ناسنا عندما فرغنا لتسويق خلافاتنا، ووعت أجيالٌ دنياً غيرَ التي ألِفناها فصارت لهم حساباتٌ لا تعترف بجداول الضرب ونتائج القسمة، وعمت الذاتيةُ المغردةُ وحيدةً ونسينا أن الجمع يصنعُ والضربَ يوجع والكسور وهن.

** الأقليةُ لا تفوز.