شحَّ عليَّ بالفتوى سماحة الوالد العلَّامة صالح الفوزان - الذي لا أرتاح إلا إلى فتواه - حول إصرار طلبة العلم على قول: (أشرف الأنبياء والمرسلين)؛ فلما طال انتظاري استفتيتُ معالي الدكتور صالح الحميد وأخاه الفقيه الشيخ أحمد؛ فوعداني، فلما طال انتظاري عزمتُ على تحقيق المسألة؛
فما كان من صواب فمن الله بفضله وتوفيقه، وما كان من خطإٍ ففيه أجر ومعذرة؛ لأنني مخلص لربي في ابتغاء الإصابة؛ سالك طريق الصواب في الاجتهاد؛ فإن وجدتُ عند أحد استدراكاً يُقنعني رجعتُ إلى الأرجح؛ فأقول وبالله التوفيق: إن الصلاة التعبدية على عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم توقيفية لا يحل خلافها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (قولوا كذا)؛ ثم علمهم ما يقولون؛ فهذا بيان وأمر لا يحلُّ تعدِّيه، وعلَّمهم الصلاة والشهادة بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وفي خطبة النكاح، وعلمهم الرِّضا به نبيّاً ورسولاً في حديث رضيتُ بالله ربّاً، وفي هذه المواضع الاكتفاء بالصلاة والسلام عليه وحده.. وأما الصلاة عليه بالصلاة التعبدية فأصحُّ شيئ في هذا الصلاة الإبراهيمية وما صح من متونها وأسانيدها.. وورد النص بسيد المرسلين وبعضه لا يصح، وبعضه من المرسل، وتقصيتُ في مكتبتي من كتبٍ أُلِّفت عن هذا، وكذلك كتب الأذكار، وكذلك خطب السلف: فلم أجد ذكر (أشرف)، وأجمعُ هذه الكتب وأرفعُها كتابُ القول البديع، ويليه في الأهمية لا الزمن جلاء الأفهام.. والسخاوي صاحب القول البديع عنده تسامح واعتماد على الحكايات والمنامات ولكنه مشحون بالفوائد، وقد محَّصه مُحققاه في حواشيهما.. بل وجدت عنده بحثاً علمياً نفيساً عن معنى الصلاة لغة نقلاً عن (الصِّلات والبُشَر في الصلاة على سيد البشر) للفيروزآبادي لا يوجد عند غيره في موسوعات متون اللغة.. وإنما توجد (أشرف) في استفتاح المتأخرين في مؤلفاتهم، وعند قِلَّة قبلهم كابن جرير الطبري تجاوزات في غير هذا.. وعندهم تجاوزاتٌ في تقديمهم من جهة حمد الرب سبحانه بالمدح والشكر، ومن جهة التقديس، ومن تعداد آلاء الله وصفاته، فيؤخذ منها ما صح معناه، ويُـهمَّش أو يُحشَّى على ما فيه تجاوز كتعاملي مع المقدمات التي أستعيرها.. وصيغ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صحت معانيها، وهي من غير المأثور لا تكون هي الصلاة التعبدية التي أُمرنا بها، وما يأتي من التحميد والتقديس وكل أوجه الثناء على الله سبحانه من الصيغ الصحيح معناها، وهكذا ما يرد بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الثناء عليه، ومن تكرار الاستفتاح، ومن الجمع بين الصلوات المشروعة: كله من باب بسط المعاني المأثورة، وشرحها، والاستدلالِ لها، وبيان فضل المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك حسن وخير كثير، ولكنه غير الصلة التعبدية التي هي توقيفية.. وماحدَّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه مِن صِيغِ الصلاة والتسليم ليس عبثاً، بل كان متواضعاً لإخوانه من النبيين والمرسلين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولم يُدْرج في تعليمه أصحابَه الصلاةَ عليه تفضيلَه عليهم وأنه أشرفُهم، وإن كان أفضلهم على الحقيقة؛ فما بالنا نتعبد بصلاة من عندنا فيها ما لم يُشرع لنا، ولم يرتضه لنا بأبي هو وأمي ؟!.. وإتْباع الصلاة بالدعاء مثل ((ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا معهم ومنهم برحمتك يا أرحم الراحمين)) دعاء مُسْتَقِلُّ بعد أدائنا الصلاة المشروعة، والمسلم راغب إلى ربه بالدعاء في كل آن، إذا كان الدعاء مأثوراً أو صحيح المعنى بلا تجوُّز.. والتسبيح والتحميد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المدخل للدعاء، ولابأس أن يرد في استفتاح العلماء بيانُ أن محمداً صلى الله عليه وسلم أرفع درجة عند ربه، أو أنه أشرف الناس منزلة.. وأما هَجْرُ الصلاة الصحيحة التعبدية التوقيفية بقول: (أشرف الأنبياء والمرسلين) فذلك رغبةٌ عما شرعه الله، وإصرارٌ على العناد، وقول بلا برهان، وإذا ذُكِرَتْ (أشرف) في سياقٍ ما لبيان ميزة المصطفى عليه السلام فيلزم تخصيصه بعلوِّ المنزلة، لأن أول ما يتبادر للذهن في لغة العرب من كلمة الشرف شرف النسب والحسب والعِرض.. ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق قاطبة بمجمل فضائله لا بآحادها؛ فموسى عليه السلام خصه الله بفضيلة هي أن أرسله بمكالمة ربه له، وأنزل عليه بعض الأحكام الشرعية بمكالمته إياه، وخصَّ الله إبراهيم عليه السلام بخصال؛ فكان خليل الرحمن، وأُمَّةً وَحْدَهُ.. وهكذا شرف الحسب والنسب، فنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أزكى نسب في العرب لم يولد من سِفاح، ولكنَّ نسبه إلى مَن دون إسماعيل عليه السلام على نجابته ليس بأشرف من نسب يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم صلوات الله وسلامه.. وليس هو أشرف حسباً من أنبياء الله ورسله من بني إسرائيل الذين تسلسل نسبهم بالأنبياء وملوك الحق إلى أبيهم إبراهيم.. اللهم إني بلَّغتُ، فمن أبى إلا الاستمرار على غير المأثور، وتسامح بما عليه مدخل، وليس عنده برهان من ربه يدفع به: فقد اختار العناد والاستكبار على الحق، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والله المستعان.
***
بل في القرآن غريب:
نقل لي بعض الأحباب أن أحد العلماء الفضلاء أنكر أن يكون في القرآن غريب؛ وذلك تورُّع وتحفُّظ منه أن يُوصَف شيئ من كلام الله بالغرابة؛ فجزاه الله خيراً على حُسْن المَقْصد، ولكنَّ تحفُّظَه غير وارد؛ لأن القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهَّرة (الوحي غير المتلو) وَرَدَا بلسان عربي مبين، ولا يحل تفسيره إلا بدلالة تصحيح من لغة العرب، ودلالة ترجيح على المراد الذي خصَّص دلالة التصحيح من عموم دلالة اللغة.. وما دام كلام الله نزل بلغة العرب فلغتهم مشحونة بالغريب الذي أفرد له اللغويون مؤلفاتٍ خاصة، وأفرد كُتباً لغريب القرآن علماء أجلاء منهم علماء ربانيون وَرِعُون كأبي إسحاق الحربي رحمهم الله تعالى؛ فلا غضاضة أن يكون في كلام الله غريبٌ وهو بلغة العرب؛ فهذه واحدة، والثانية: أن اللغة العربية واسعة، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه الرسالة كلمةَ حقٍّ هي: ((لا يحيط بلغة العرب إلا نبي))؛ فما دامت اللغة غير مُحاطٍ بها؛ فسيظل ما لم يُحطْ به غريباً، حتى يعلمه ويأنس به مَن كان غيرَ عارفٍ معناه.. والثالثة: أن الغرابة نِسبيَّة؛ فما كان غريباً عند قوم فهو غير غريب عند آخرين؛ فالغرابة من غِياب علم بعض العرب، وليست غرابة على كل العرب؛ فتكون مستغربة في لغتهم.. والرابعة: أن هذا مُمارس الآن في اللهجات المحليَّة المنحرفة عن النحو العربي، والمُنحرف بعضها عن الدلالة العربية؛ فالسفيه عند أهل بلد ما هو المجنون، وهو غريب عند من يفهمون السفه بسوء التصرف من غير المجانين.. وبعضهم يقول (خَرَّ عَنْ) بمعنى خوَّفَني على غِرة فارتعت، فذلك غريب عند مَن لم يعرف من التخريع إلا تكسير اليابس أو قَشْعَه أونَزْعَ العضو من الأحياء وإن لم يفْصله ويُبِنْه، والخامسة: أن الغرابة تأتي من جهتين: أولاهما أن تكون قليلة التداول عند العرب ولا سيما أهلُ المدَرِ؛ فيجهل معناها كثير منهم؛ ولهذا سأل الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاني بعض المفردات.. وأخراهما: أن تكون المفردة معروفة عند العرب، ولكنَّ المعنى الذي ورد به الشرع لا يعرفه بعض العرب؛ ولهذا أشكل عليهم معنى القُرءِ ومعنى الكلالة ..وليس من هذا الباب ما كَنَى عنه الشرع؛ فالحميري الذي سأل أبا هريرة رضي الله عنه يعرف معنى الحَدَثِ في عمومه، ولكنه لا يعرف المعنى المكنِيَّ عنه؛ ولهذا فسَّره له أبو هريرة بصريح التسمية ولم يكْنِ.. وبعد هذا فالريب قد يشْهرُهُ كثرةُ الاستعمال؛ فيكون غير غريب.
***
شِعْرُ الفُتوَّة:
قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى في تعليم المبتدئين منهجَ التعلُّقِ بالشعر، وبيان الضروب التي ينبغي اجتنابها: ((الأشعار المقولة في التَّصَعْلُكِ وذِكْرِ الحروب كشعر عنترة، وعُروةَ بن الورد، وسعد بن ناشب، وما هنالك: فإن هذه أشعارٌ تُثيرُ النفوسَ، وتُهيِّجُ الطبيعة، وتُسهِّل على المرء موارد التَّلف في غير حقٍّ، وربما أدَّتْه إلى هلاك نفسه في غير حق، وإلى خسارة الآخرة، مع إثارة الفتن، وتهوين الجنايات والأحوال الشنيعة، والشَّرَهِ إلى الظلم وسَفْك الدِّماءِ.. وأشعار التغرُّب، وصفاتِ المفاوِزِ والبِيد المَهامِه؛ فإنها تُسَهِّل التحوُّلَ والتغرُّبَ، وتُنْشِبُ المرءَ فيما ربما صَعُبَ عليه التخلص منه بلا معنى.. والهجاء؛ فإن هذا الضرب أفسد الضروب لطالبه؛ فإنه يُهَوِّنُ على المرء الكونَ في حالة أهل السَّفه من كُنَّاسي الحُشُوش، والمعاناة لصنعة أهل الزَّمير المتكسِّبين بالسفاهة والنذالة والخساسة، وتمزيق الأعراض وذكر العورات وانتهاك حُرَم الآباء والأمهات؛ وفي هذا حُلُولُ الدَّمار في الدنيا والآخرة)).
قال أبو عبدالرحمن: آخر كلام ابن حزم يحمل معاناة أبي محمد من البيئة الأندلسية المترفة، وتربيته ههنا نفيسة تجمع بين الجمال وشرطه الجلال إلا ما ذكره أبو محمد عن الفُتُوَّة فهو صحيح بالنسبة للمبتدئ الذي لم يتمكن في العلم الشرعي والورع والتعبُّد؛ فإذا وصل إلى هذا المستوى الرفيع فمن كمالياته أن يحيط بشعر الفتوة، ويحفظ عيونه، أو يستذكر معانيه؛ لأن ذلك يكسبه رجولة وقوة في الحسبة والصبر على الأذى.. كذلك أشعار التَغرُّب ووصف المفاوز لا تَرِدُ إلا لوصف ما حصل، وليست تدعو إلى ذلك، بل ترسم المعالم، وتشحذ الهمة على الصبر عند من بُلي بالغُربة.. وأبو محمد عاش الغربة والتَّنقُّل كثيراً، ووصف ذلك شعراً ونثراً، وما أملح قوله في هذا المعنى يصف نفسه:
لم تستَقِرَّ به أرضٌ ولا وطنٌ
ولا تدفَّأَ منه قطُّ مَضْجِعَهُ
فإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله تعالى، والله المستعان.