كُتَيِّب (التوقيف على شارع النجاة) عَمَلٌ إصلاحي نفيس جداً؛ لأنه خلاصة تبُّحرٍ علمي، وخلاصةُ تجربةٍ عريضة لإمام مشاركٍ هو وأبوه في سياسة عصره: مرَّات كان وزيراً، وأكثر من ذلك كان معارِضاً بالحجة والموعظة والصَّدْع بالحق؛
وذلك هو الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى.. لقد فَحَص واقع عصره فذَّكر أبناءَ جِيله - على تصميم وصبرٍ على الأذى - بمواعظ القلوب، وإلزام العقول؛ فكان وعظاً فكرياً علمياً جمع بين مرحمة الإسلام في الوِقاية والعلاج معاً؛ فالله جلَّ جلاله الذي أمرَ الأمة بكفاية ضعيفها الذي لم يقدر على القيام بنفسه هو الذي عَظَّم شأن الإمام والجماعة؛ للتلاحم على دفع ظَلَمَةِ الناس الذين لم تصلحهم الموعظة، ولا سارعوا إلى هداية السلوك بمعرفة الحقائق؛ فكان تحقيقُ منافع النبوَّة المطهَّرة التي لا صلاح للناس إلا بها مسؤوليةَ الأمةِ التي يجب أن تنقاد إلى جماعة حقٍّ وخير، وهي الجماعة التي أحاطت علماً بفقه الدين وفقه وقائعه تحت رعاية حكومة يدرأ الله بها الشرور، ويُحقِّق بها السعادة؛ لحياطة مصالح الدنيا بحفظ الأموال والأعراض والنفوس والعقول والفروج والأمن وإقامة شعائر الدين؛ لتحصل السعادة والأمن وسعة الرزق وصدق التوكل على الله والشوق إلى لقائه؛ وتلك هي الحياة الطيبة المطمئنَّة التي وعد الله بها عباده المؤمنين؛ فَتَقْوى القلوب وتتقي، وتشعر بالحرية بأقصى حدودها إلا من العبودية لمن بيده الأمر كله؛ فبه جلَّ جلاله حياتنا، وإليه معادنا.. وبغير ذلك تكون العبودية الذليلة والجبن والقلق وشتات الذهن والرزق والبرم بالحياة.. كتب الإمام هذا الكتيِّب رسالةً لسائل من أصحابه، فأوجز له التوجيه بأن الواعظ نفسه أولاً من طُلاَّب العلم لا يشغل أيام حياته بثقافة هامشية - وإن كانت مداخلة تلك الثقافة بتلك الصِّفة ضرورية غير مُستغرِقة الوقت مِن أجل النشاط على الجِدِّ -؛ فهذه الهامشية كوصفها؛ فلا ثمَّة زيادةُ حَاجة إليها، بل يكون وُكْدُهُ فيما ينفع نفسه وينفع أُمَّته بالتزام الأخلاق الفاضلة عن علم وتجربة، ورياضةُ النفس على التزامها؛ مما لا يستطيع مُشاغِب أن ينال منها بأي تضليل كالعدل، والكرم بلا خُيلاء ولا سرف، والعِفَّة عما هو غير مُباح، وعما في سَعَة الفردِ غِنىً عنه وإن كان مُباحاً، والصدق، والشجاعة في الحق (وعنها تصدر النَّجدة، ويتميَّز شرف النفس عن خاملٍ وغْدٍ يتَّكئ على ما يدَّعيه من شرف النسب.. وحجة الأنساب في هذا العصر أوْهَى من حجة النحوي)، ولو صح شرف النسب - ولم يكن في ثناياه قاطع طريق، أو جبان، أو بخيل، أو عِربيد، أو عاهر - فهو عمل وهبي لا كسبي.. وما نفع بني إسرائيل (بخلافِ عمومِ يهود من أجناس العالم) الفلُ الوهبي بالنِّعم وهم أَعْرق نسباً؛ وإنما كانت الخيرية لخير أمة أخرجت للناس، وكان فضلُ الله عليها كسبياً؛ بأن كانوا قَوَّامين بالقسط يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وهم في سلوكهم قدوة.. وكان فضل الله عليهم أيضاً بهدايته الشرعية؛ فلمَّا امتثلوها توطدت عناصرُ مكارمِ الأخلاق في جبلتهم بما اقتضاه توظيف الدين لها بلا تحسير ولا تقصير.. ومن الفضائل الرحمة للبشر والحيوان، والحلم، والرفق والأناة في معالجة الأمور، وطلاقة الوجه والبشاشة، والتواضع من غير ضَعَةٍ، وخْفضِ الجناح من غير جُبْنٍ؛ وذلك هو العفو مع القدرة، والاستعلاء على المتغطرس المستكبر.. والمشهور أن (الكِبْرَ على المُتَكبِّر سُنَّة) ولا أعلم مَأْخْذَ ذلك شرعاً إلا أن يكون من باب ما ورد في الشرع مما يُسمَّى في البلاغة (مُشاكلة)، ولا يُدْفَعُ ذلك بأن الشرع أوصى بدفع السيئة بالحسنة؛ لأن ذلك على الندب والاستحباب ما لم يستمرئ الطرف الآخر سلوكَه العَفِنَ ويستمرَّ عليه، والمشاكلة على الإباحة.. ولكن الذي أعْرفه بالتجرِبة - والتجرِبة برهان - أن المشاكلة في هذا علاج وقتي ناجعٍ؛ لإشعار المستكبر بقيمته الدون، وأنه في متاهة الغُرور، وليس ذلك استحلاءً للتكبُّر ولا استباحةً له.. قال الإمام في كتابه الآخر (مداواة النفوس) واعظاً لا مُشاكِلاً، ووعظه للعائل المستكبر الذي قد يُصاب بانفصام الشخصية؛ فما بالك بالمستكبر عن بطرٍ وغرور حقيقي لا عن أحلام ؟ !.. قال الإمام : ((ولقد تسبَّبتُ إلى سؤال بعضهم في رفق ولين عن سبب علوِّ نفسه واحتقاره الناس ؟ ؟.. فما وجدت عنده مزيداً على أن قال لي : (أنا حرٌّ لستُ عبدَ أحد).. فقلتُ له : أكثر من تراه يشاركك في هذه الفضيلة؛ فهم أحرار مثلك إلا قوماً من العبيد[ المماليك أذْوَق ] هم أطول يداً منك، وأمرهم نافذ عليك وعلى كثير من الأحرار.. فلم أجد عنده زيادة؛ فرجعت إلى تفتيش أحوالهم ومراعاتها؛ فأفكرت في ذلك سنين لأعلم السبب الباعث لهم على هذا العُجب الذي لا سبب له؛ فلم أزل أختبر ما تنطوي عليه نفوسهم (بما يبدو من أحوالهم ومن مراميهم في كلامهم)؛ فاستقرَّ أمرهم على أنهم يُقدِّرون أن عندهم فضلَ عقل وتمييز ورأي أصيل لو أمكنتهم الأيام من تصرُّفه لوجدوا فيه مُتَّسعاً، ولَأَدَارُوا الممالك الرفيعة، ولبان فضلهم على سائر الناس، ولو ملكوا مالاً لأحسنوا تصريفه؛ فمن ههنا تسرَّب التِّيه إليهم، وسرى العجب فيهم)).. إلى أن قل: ((ودواء من ذكرنا الفقر والخمول، ولا دواء لهم أنجع منه وإلا فداؤهم وضررهم على الناس عظيم جداً)).
قال أبو عبدالرحمن: من هذا شأنه يُسمَّى داؤه في العصر الحاضر (انفصام الشخصية)، وليس كل مُستكبر هكذا، بل منهم ذو بَطَرٍ وهو أذكى من أبي مُرَّة في إدارة أعماله الدنيوية، فدواؤه أن تستغني عنه، ولا تعبأ بمحضره، وقل كثيراً : (الحمد لله الذي فضلنا على بعض عباده الذين إن ظلوا على بطرهم فهم لا يزنون عند الله جناح بعوضة)، وأسمعهُ مُعْرضِاً عنه غير ناظرٍ إليه.
وبعد التزام الأخلاق الفاضلة ذكر أبو محمد وازع السلطان والمجتمع بدفع المظالم، ثم ذكر السعادة الأبدية منذ اللحد التي منحنا الله الحياةَ من أجلها.. ذكر ذلك خلال إجابته صاحِبَه عن سؤاله : أيُّ العلوم أنفع ؟.. وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها الإمام هي عِمادُ الحياة لا أتصوَّر لها رابعاً ألبتة، وهي التي لا تعمر الحياة إلا بالانقياد لها بحكومة رائدة، وجماعة راشدة: تعِظ بالبرهان، ويصدر عن سلوكها القويم (حياءٌ اجتماعي) يدفع الله به ما لا يدفع بوازع السلطان؛ فيا أمة محمد : هل أنتم مُقتنعون بالبطش الأممي المعادي لنا منذ الحريق العربي بتحييد وازع السلطان عما يحدث من دمار يقترفه سلوك شُذَّاذ الأفراد من الشعوب ؟!.
قال أبو عبد الرحمن: رحم الله هذا الإمام الحبر المبارك؛ فكلما أبكاني بمسائل قليلة تَعَجْرَفَ فيها على الإصابة: غمرني بالبهجة بنفائسه التي لا تزيدها سعةُ العقول البشرية بالعلم وقوة الإدراك إلا تجدُّداً واستعلاء.. وهذه عادةُ الإمام ليس عنده حلول وَسَطِيَّة؛ فإما سُموقٌ جداً، وإما نزول جداً.. إلا أن النزول هو الحالة الاستثنائية القليلة، والسموق هو القاعدة.. رحم الله الإمام رحمة واسعة، وقدس روحه، ونوَّر ضريحه، ومنَّ الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإمام مثلِه، وجعل العبد الضعيف أبا عبدالرحمن خير خلف لخير سلف؛ فيا تلاميذ كتب الإمام إنني عاقد العزم إن شاء الله على تجديد الأضحية له هذا العام؛ فلا تَنْسوه من دعائكم وبِرِّكم، ولا ترمقوا بمؤخرة أعينكم مَن أنتنتْ آباطُهم بالتقليد التي لا يتنفسون إلا من خلالها لا من خلال ما أَنْصعه السِّواك؛ فقد سمعت صغيراً في المذياع يجيب السائل بالتحذير من كتب ابن حزم وهو لا يحذق شيئاً من نظرية المعرفة والعلم، وإنما بضاعته حَمْلُ الأسفار تجاه المذياع (كذلك الذي ضرب به المثَلَ) وترديد قال وقال، ولا يدري حقيقةَ ما قيل وقيل؛ فتبارك الله أحسن الخالقين، ورحم الله زماناً أَطْلعه، وإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.