هذه كلمةٌ قد تَعْبُرُ السَّمْعَ في غفلةٍ عن التفكُّرِ والتَّذَكُّر، ولكنها مع التكرار تَصْدَع القلب، وكثيراً ما سمعتها من سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وهو يعظني، فلم أُلْقِ لها بالاً مِراراً، ومع إكثاره عليَّ بها - لما يراه عندي مِن قصورٍ عن حال من يرجح ميزانه، وناهيك بدرجات الإحسان -:
تفكَّرتُ وتذكَّرت حول ترداد سماحته هذه الجملة؛ فإذا بعقلي ينتقل إلى التذكر والتفكُّر في الكلمة نفسها، وإذا بها تصدع قلبي؛ إذْ بدا لي أن الإنسان في غفلته، وظَنَّهِ أنه لم يرتكب كبيراً هو في واقع الحال بين أَجَلَين من عُمْره: أجلٍ مضى لا يدري ما الله قاضٍ فيه، وأجلٍ لا يدري العبدُ نفسه ما هو فاعل فيه.. وغلبةُ الرجاء، وحسنُ الظن بالله، والثقةُ بعفوه (وكل هذه الأمور يجدها المسلمُ في قلبِه بُشْرى مِن ربِّه) لا تحصل إلا حالَ عبادةٍ خالصة خاشعةٍ دائمة بلا مَلل؛ فإن حصل شيئ من عادة البشرِ من الإخلاد إلى الراحة، والتكاسل، والتواكل المنهيِّ عنه، والاستهانة بفعل المستحبات: فلا يربض في شَرك الشيطان، بل يُسارع إلى الاستمتاع بلذة العمل والمناجاة؛ ليعيد الله إليه استقامةَ سلوكِه.. وبالمناسبة فإن حديث: ((... أعوذ بالله من شَرِّ نفسي، وشَرِّ الشيطان وشَرَكه)) وردَ نقلاً بكسر الشين المعجمة وسكون الراء المهملة، وورد بفتح الشين والراء، وهذا الضبط هو الذي يَصِحُّ معناه، والضبط الأول لا صِحَّةَ له ألبتة، وروايته من باب الخطإ، وكم مِن حاملٍ روايةً وهماً؛ لأنه غير فقيه فيها، وبيان صِحَّة اختياري أنه لا خصوصية لشِرْك الشيطان بكسْرِ الشين وسكون الراء؛ بل الشرك موجب الخلود في النار، مانع من رائحة الجنة.. والتحريمُ للشرك تحريم له في نفسِه غيرُ مُقيَّدٍ بشركِ فلانٍ وعلَّان، والشيطان الأكبر إبليس لعنة الله كافر غير مشرك، ولكنه يدعو إلى الشرك بِشَرَكِه بفتح الشين والراء بمعنى حُبَّالَتِه.. وقلت: إنه كافر غير مشرك؛ لأنه يعلم أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولكنَّ داء الحسد دفعه إلى جحد ما يجب عليه من الطاعة؛ فكان كفر الجحد عنده، وكفر سلوكه في الإضلال أعظم من الشرك الذي هو إشراك غير الله في الطاعة الشرعية، وكلاهما موجِب الخلود في النار مُـحَرِّم الجنة.. وقلت: (إن عبارة سماحته تصدع القلب)؛ لأنه لا طمأنينة للقلب على رحمة الله وعفوه والمكلف يعلم من محاسبته نفسَه أن ما مضى من عمره ليس فيه ما يرجح به ميزانه، ويعلم أن بقاءه على ما هو عليه من التقصير والاقتراف لا يأمن به حُسن الخاتمة في بقيَّة عمره؛ لأنه يعلم من دين ربه الذي تراخَى عنه سلوكُه: أن المعصية تجر إلى معصية، والتقصير يجر إلى تقصير، وأن الله قد يُضِلُّ من دامت معاصيه ولم يتراجع، وأن غاية مناه أن يدخل الجنةَ بَدْءاً؛ لأنه لا طاقة له على الار ثانية واحدة، وهذه النجاة لا تحصل بالأماني، والاتكالِ على هاجسِ (إنني مؤمن بالله وبدينه في قرارة قلبي).. وبكاءُ عبدِ الله على خطيئته مُنْبَعِث من محاسبته نَفْسَه، ومُظهرٌ حقيقةَ إيمانه؛ فتحصل له السعادة والبُشْرى من جهتين: الأولى الأُنْس بربه في فيئته وتلذُّذه بالعبادة ومناجاته ربَّه، وتقوى عزيمته على الاستقامة؛ لعلمه أن هذه اللذة وتلك البشرى لم تحصل له إلا في هذه الحالة التي استقام عليها.. والجهة الثانية علمه اليقيني من نصوص الشرع الصحيحة الصريحة أن حقل الحسنات أثرى وأغزر من حقل السيئات؛ لأن السيئة بمثلها، والحسنة مضاعفة إلى ما شاء الله من رحمته؛ لعلمه بحال عبده.. والحسنات التي تمَّتْ لا يحبطها إلا الكفر بالله أو الإشراك معه، وقد يُحبط بعضُ الكبائرِ عملاً مستقبلاً من جهة الثواب مع براءته من إثم الترك.. والسيئات تمحوها الحسنات، ومع صدق النية وظهور العزيمة سلوكاً تنقلب السيئة إلى حسنة في ميزان الله الرحيم.. والله يكتب للمؤمن حال مرضه وعجزه ثواب ماكان يعمله من الخير حال قدرته، ولا يكتب على الفاجر حال مرضه وعجزه إثم فجوره حال قدرته؛ فلم يحاسبه على ما لم يعمل حال عجزه بعدله، وأثاب المؤمن بما لم يعمل حال عجزه إحساناً منه؛ فإن تألم المؤمن حال عجزه من إقعاده عن الخير الذي كان يعمله ازداد أجره، وفي هذا صحة معنى الحديث الضعيف ( نية المؤمن خير من عمله )؛ فالخيرية بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى العمل.. ومُكفرات السيِّئات تكون بأعمال سهلة جداً كالإكثار من الاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل.. ولا يقولَنَّ قائل: (الإنسان مثقل بأعمال حياته؛ فمتى يفرغ لهذا الإكثار؟)؛ فهذا من تثبيط الشيطان، ومن إغفاله ثلاثةَ أمور سهلة جداً:
أولها: أن عمله الدنيوي لمعيشته وكفافه بالطُّرق المستحبة والمباحة عمل عبادةٍ يتقوَّى بها على عبادات أُخرى.. فإن اشتغل بعلم نافع خالص لوجه الله لم يَقْعد به عن الواجبات فذلك يُساوي قيامَ الليل.
وثانيها: أن في حياة المسلم أوقاتاً صامتة لا تُحصى كثرة، وهي ضرورية في حياته مُعَطِّلة لما سينشط له من أمور حياته؛ فلا يُضيِّعها بالهواجس، وتذكِّر المواقف المضحكة أو المحزنة، وأحلام اليقظة.. بل يعمرها بذكر الله واستذكار ما حفظه من كتاب الله؛ فهو لن ينام إلا بعد لحظات صامتة، وفي مشيه من مكان إلى مكان، وفي انتظاره وحده في مكانٍ ما حضورَ قادمٍ، أو إنجاز عَمَلٍ يؤدِّيه له غيره لحظاتُ صمتٍ كثيرة.
وثالثها: أن أطراف الليل قُبيل الغروب وبُعيد صلاة المغرب، وقبيل الفجر وبُعيد صلاة الفجر، والسجود في النوافل - إن كان إمامه يُخَفِّف صلاته - مواسمُ لقبول الدعاء، وأهمُّه دعاء الهداية والتثبيت؛ فليغتنم هذه الأوقات وهي غير شاقة ولا مُعَطِّلة؛ فإن كانت له شواغل دنيوية ضرورية تمنعه من لُبْثٍ يقتضي الإكثار من ذكر الله والدعاء: فليختصر الوقت، ويُقَسِّط الذكر والدعاء؛ فيناجي ربه ويدعوه اليوم بما أهمله أمس.. وما كان دعاءً مُقَيَّداً والسنة تكراره ثلاث مرات فلا حرج عليه حال الضرورة من الاقتصار على مرة واحدة.. وقول بعض الزُّهادِ: “ دموعُ العصاةِ قرباتُ الأبرار “ كلمة والذي نفس أبي عبدالرحمن بيده مليحة نفيسة جليلة صحيحة المعنى شرعاً؛ لأن الله يعلم مِن حال عبده أنه مُحاصَرٌ بِشَرَك شياطين الجن والإنس، ونوازع النفس بكل أهوائها، ويعلم ضعفه في نفسه؛ فإذا فاء إلى ربه، وحزن قلبه على ما أسلف، وبكى في خلوته: فذلك برهان على قوة إيمانه، وعلمه بلطف ربٍّ كبير يغفر ويرحم وهو الغني الحميد؛ وفي ذلك براءتُه من الحول والقوة، واعترافه بالخطيئة، واستعاذتُه بربه منه، وهو خالقه المتصرِّف في قلبه ومشيئته؛ فحاشى لجلال الله وكرمه - وإنني أُقسم على ذلك أجل الإقْسامِ، مُتَحَمِّلٌ مسؤوليتها عند لقاء ربي -: أن الله لن يخذل عبده المنيب، ولن يردَّ استعاذته، ولن يُضَيِّع اعتصامه بشرط أن يُعيد الكرة مرة بعد مرة كلما عاودته عوارض الضعف البشري، ووالله قسماً بالرب الكريم عَلَّام الغيوب: أنه لن يُهمل عبداً تعلَّق بذكره، واستعاذَ به كلما اعترته غفلة.. أوَ لم يقل جلَّ جلاله - وقوله الحق والصدق -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة الحشر/ 19)، وبرهان الدليل عند أهل الظاهر أن العكس بالعكس؛ فلا ينسى الله من ذكره.. وربي لا يضل ولا ينسى، وما في الآية هو المشاكلة البلاغية: يجازي الغافلين بالإهمال غير ناسٍ ما قَدَّموا وما هم عليه؛ فمقابلة نسيانهم الحقيقي بنسيانه سبحانه هو الإهمال، والمشاكلة من المجاز الأدبي لا اللغوي.. إنَّ قول ابن باز (اِبْكِ على خطيئتك يا عبدَالله) مِيسمٌ في حياتي، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملة أبيه إبراهيم وهما أسوتنا، وقد قال عنه ربه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (سورة التوبة/ 114)، و{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (سورة هود/ 75).. والأواه المتأوه المظهر حزنه على معصيته أو تقصيره خشيةً لله، ولقد نفعني ربي بهذا التنغيص منذ أيام جنوحي فما التذذتُ قط بمغريات الغفلة وإن كنت جانحاً.. ووصف الله ثلاثة من الرسل عليهم الصلاة السلام بأنهم أوابون فقال تعالى عن داوود: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص/ 17)، وقال عن سليمان: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص/ 30)، وقال عن أيوب: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص/ 44)، وقال الله عن هؤلاء مخاطباً عبده ورسوله محمداً عليهم أفضل الصلاة والسلام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (سورة الأنعام/ 90)، والأوبة رجوع من له اختيار وإرادة؛ فهؤلاء خيار الخلق هم القدوة؛ فهل ينفع من عاين منكراً ونكيراً أن يكون أوَّاهاً أوَّاباً؟!.. وهل بعد الانصلات من ثغرة الأربعين عذر؟!.. فكيف بمن جاوزها بعدد إخوة يوسف عليه وعليهم السلام - كتبتُ هذه الفقرة وعمري (51) عاماً -؛ لأن يوسف استغفر لهم ولم يُنْهَ، ولأنهم رجعوا إلى ربهم.. وقلتُ مرَّة مخاطباً مَن رمز لاسمه بابن بطوطـة ( وإلى الآن عجزتُ عن معرفة هُوِيَّة ابن بطوطة سامحه الله ): (( فهو حفظه الله يُذَكِّرني بمبكيات القلوب، ومدغدغات العواطف، ومتنفسات البُرحاء.. ولقد كنت والله منهن في نعمة قلمية، وإنها والله لتفاجئني - إلى لحظتي هذه - تلك الأجواء الطروبة سامعاً أو ناظراً أو متذكراً؛ فألجم قلبي إلجاماً محكماً، وأقسره على العزيمة قسراً؛ لطول السفر، وبعد الغاية، وقلة الزاد.. ولو أسلست للقلب القياد في منسيِّ الهوى لكتبت تلاحين فكرية.. وإني لأحاسب نفسي إذا توثبت توثباً فنياً، وأقتنع بأن هذا التوثب - إن شعراً أو نثراً - من المباح المعفو عنه كحداء المسافرين المكدودين للعيس.. ولكنني أجد نفسي محاصراً من الأهل والولد: إن نقشت لوحة فنية قالوا: (ما بعد الشيب إلا العيب).. أي كل تقصير يتضاعف العيب به مع وقار الشيب.. وأجدُ نفسي محاصراً من مجتمعي فأحد الشباب أخذ بيدي من باب المسجد الشرقي بالملز إلى باب بيتي يحاورني فيما كتبته عن الارتياح إلى ألعاب السيرك!!.. كيف أرتاح للسحر!!.. وأذكر منذ أزيد من عشر سنوات أنني كنت مع الأستاذ عبدالله الحرقان في نزهة على أحد آفاق مدينة بريدة عصراً فخوفني وأنذرني من كتابةٍ أُحاسب عليها))؛ فما زالت كلمته منغصة لي حتى استملت إحراق ما لم أحرقه بعد، وهو الجزء النثري من كتابي (النغم الذي أحببته).. كتبتُ هذه المداخلة التي أدْرجتُها ههنا بهذه الجريدة في 19-11-1408هـ.. ومن أشياخنا العوام الذين نَوَّر الله قلوبهم بالإيمان وهم على فطرتهم (لا يعرفون تحذلقاً بالإنشاء، ولا يُتقنون فلسفة يروضون بها عقولهم) شِيبةُ حَمْدٍ سمع في المسجد بعد صلاة العصر كهذه المقالة عن مضاعفة الحسنات، ومحو السيئات؛ فصار يلتفت يميناً وشمالاً ووجنتاه ترتعدان بالضحك، فمجَّ من شفتيه ضحكة طرفُها من المَـنْخِر مصحوبة بقوله: ((وشْ بقي - بقاف مخرجها بين القاف والزاي - للغني الحميد؟!))، ثم طأطأ برأسه ببكاء ألغى بسرعة ضحكته وهو يقول: (بقي له أنه الغني الحميد؟!)، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.