| |
سعود بن عبدالعزيز: الملك الإنسان عبد الرحمن بن عثمان الملا (*)
|
|
حين تقف أمام شخصية ممتدة القامة، عالية الهامة في تاريخ هذه المملكة المباركة محاولاً رسم ملامحها، وما توحي به تلك الملامح من الصفات والأخلاق والقيم، وما تركت من بصمات واضحة على المسيرة التاريخية، وما أضافت من طوابق في بناء هذا الكيان الشامخ حين تحاول رسم ذلك كله، ستجد ريشتك عاجزة كل العجز مهما كانت قدرتها على التصوير والإبداع، وبخاصة حين تكون مساحة النشر أمامك محدودة النطاق، وهذا ما شعرت به وأنا بصدد الحديث عن شخصية الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود (تغمَّده الله بوسع رحمته). فقد كان من ذلك الطراز الذي تجسدت فيه صفات الملك الإنسان، ابن الفطرة التي لم تستطع المدنية الحديثة وعنفوانها وبروتوكولاتها أن تبعده عن هموم شعبه وأحوال أمته، فقد كان يعيش معهم ويحيا حياتهم رغم ما كان يحيط به من أبهة الملك ونعيم الحضارة، وفي هذه العجالة سأحاول إلقاء الضوء على هذا الجانب النبيل من شخصيته، من خلال استحضار ما علق في الذهن من الصور والمواقف التي شهدتها في هذا الشأن. وكان أول ما قفز إلى الذاكرة منها مناظر المدن والمناطق حين يقوم بزيارتها، فقد كانت تعيش أجمل أيام حياتها بما يغمر نفوس أبنائها من السعادة ويعمها من ألوان الابتهاج، وإذا كان هو الحال السائد لأي مدينة عند زيارة أحد رموز الأسرة المالكة، فإن الذي يميز مظاهر التعبير عن الحب والولاء آنذاك كونها تتم بصورة عفوية ذاتية الدفع، إذا لم تكن مشاكل الأمن وقضاياه قد ألقت بظلالها القاتمة على الحياة ففرضت ما فرضت من صرامة المراسم ودقة الإجراءات الأمنية التي تراها في مناسبات كهذه الآن، فقد كانت الأحساء، على سبيل المثال، حين يهم الملك سعود بزيارتها تُسخِّر كل ما تمتلك من إمكانات في التعبير عن سعادتها وغبطتها بتلك المناسبة بصورة تلقائية، حيث ترتدي أبهى زينتها فترتفع الأعلام والشارات الملونة فوق أسطح المباني وتزدان الشوارع والمحال التجارية بسعف النخيل واللوحات البديعة وتنصب أقواس النصر في الأسواق والميادين حاملة أجمل عبارات الترحيب والامتنان، منها قول بعضهم: على الطائر الميمون يا خير قادم أهلاً وسهلاً بالعلا والمكارم وفي يوم وصوله تخرج البلاد عن بكرة أبيها لاستقباله في حرم سكة الحديد تتقدمهم صفوف طويلة من تلاميذ المدارس بثيابهم الكشفية وفرقها الترحيبية، وما أن يترجَّل من القاطرة الملكية الخاصة، حتى تنطلق الحناجر بالحمد والثناء وألوان الأهازيج، وبعد السلام عليه ينطلق الموكب الملكي إلى قصره بحي الرقيقة تحفه الجماهير على طول الطريق، حين ذاك، تدخل البلد في طور جديد من الأفراح فتقام رقصة العرضة في كل مكان وتتوالى الاحتفالات الرسمية والأهلية الزاخرة بضروب الحفاوة والتقدير، فيشيد الخطباء بمناقبه ويتغنى الشعراء بالثناء عليه. يزيد من روعة المشهد وبهجته ما يسبغه على الجميع من عطف واهتمام، فقد كانت طيبته وسماحة نفسه أبرز معالم شخصيته، أذكر من ذلك ثلاثة مواقف شهدتها عن قرب، أسوقها على سبيل الشاهد، ففي سنة ست وسبعين وألف هجرية، زار الأحساء وكان للمعهد العلمي من تلك الزيارة نصيب، وكنت آنذاك أحد التلاميذ به وفي نهاية حفل الاحتفاء به، فاجأنا بكلمة توجيهية مرتجلة جاء فيها قوله: (أقول لكم يا عيالي، تراكم عدتنا وعمدتنا في بنيان الوطن وصلاح حال المسلمين، إذا كنا إحنا وهؤلاء (وأشار إلى من خلفه من الضباط) مسؤولين عن حماية العقيدة والدفاع عن البلد بالسلاح، فأنتم مسؤولون عن حماية العقيدة ومصالح المسلمين بالعلم، الله الله في العلم والله الله في حماية العقيدة، وترى تقوى الله هي رأس المال)، وكانت نبرات صوته وصادق لهجته هي التي حفرت هذه الكلمات في نفسي وذاكرتي. وفي زيارة قام بها جلالته لمنزل الشيخ محمد بن أبي بكر الملا، قال معقباً على كلام للشيخ: (لا خير في العلماء إذا ما نصحونا، ولا خير فينا إذا ما سمعنا نصحهم، ولا تستقيم الأمور إلا بعالم ناصح وإمام عادل)، ولا شك أن استشهاده بهذا القول المأثور كان في موضعه، يؤيد ذلك حسن سيرته في الناس وحفاوته بالعلم وأرباب الصلاح، وقد توّج تلك الزيارة بتلبية عدة مطالب للشيخ كانت جميعها تتصل بأعمال خيرية، كان بينها تخصيص أرض لإيواء القادمين من شرق آسيا سعياً على أقدامهم بقصد الحج وتأمين وسائط تنقلهم إلى مكة، وقد استمر هذا الحال سارياً لآخر أيامه. أما المشهد الثالث، الذي لا أنساه له أبداً، كان في المدرسة الابتدائية الثالثة في الهفوف، حيث أقامت إدارة التعليم لجلالته هناك حفلاً بهيجاً تم خلاله عرض مسرحية شعرية من إعدادي تصور جانباً من نضال الشعب الجزائري في حرب التحرير تحت عنوان: (عودة جان دارك) فقد حظيت بسرور جلالته وإعجابه، وأمر أن يتقدم جميع الممثلين للسلام عليه وعقَّب قائلاً: (إيه، المملكة تساعد العرب والمسلمين بالمال والأفعال، بارك الله فيكم)، وأنعم على الممثلين بجوائز سخية، قال لي أحدهم بعد زمن طويل (كان فرحي بالسلام على الملك ومصافحته أكثر من فرحي بالجائزة، فقد ذهب المال في حينه وبقيت ذكرى تلك المصافحة). والشواهد على ما يُجسد الجانب الإنساني من شخصيته (رحمه الله) لا تقع تحت حصر، وقد آثرت الاقتصار على إيراد المشاهد السالفة الذكر كوني من شهود الحال عليها وليس الشاهد كالغائب وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، وإذا كان الملك سعود على ما وصفناه فالشيء من معدنه لا يستغرب، فهو ابن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الذي لم يكن موحد أوطان وباني كيان وناشر عمران فحسب، بل غرس إلى جانب ذلك كله دوحة كريمة كان سعود أحد أغصانها اليانعة الثمار، ووفاءً للتاريخ ومسيرته، ولهذا الرمز وسيرته، جاءت من أبي التاريخ صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود (سلَّمه الله).. هذه اللفتة الكريمة بضرورة تدوين تاريخ أبناء الملك عبدالعزيز ورصد سيرتهم وحفظ أعمالهم ليكون سجلاً موثقاً للدولة في مسيرتها التاريخية، وكانت دارة الملك عبدالعزيز خير من ينهض بهذه المهمة، حيث استهلت هذا المشروع الجليل بتدوين تاريخ الملك الإنسان: سعود بن عبدالعزيز آل سعود.
(*) عضو مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز
|
|
|
| |
|