يبدو أن جريمة الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة سوف تظل تطارد المستوطنين الإسرائيليين ومعهم حكومة بلادهم رغم كل المحاولات الرامية إلى احتواء هذه القضية. وقد نشرت صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) الأمريكية تقريراً عن قضية المستوطنات في ضوء التقرير الأخير الذي أعدته منظمة السلام الآن الإسرائيلية، ويؤكد أن أغلب تلك المستوطنات أقيمت على أراض مملوكة لفلسطينيين.
تبدأ الصحيفة التقرير بالقول إنه بسبب التذبذب الحاد في سعر شقته بمدينة القدس المحتلة قرر الإسرائيلي فيكتور سونينو شراء شقة تتكون من ثلاث حجرات على مقربة من أحفاده الذين يعيشون في هذه الضاحية، وهي أسرع المستوطنات الإسرائيلية نمواً في الضفة الغربية المحتلة.
وعندما كان سونينو يسير برفقة حفيده إيدين الذي يبلغ من العمر خمس سنوات في طريقهما إلى روضة الأطفال التي يدرس بها الطفل سارع سونينو بتصحيح لغة أحد الزوار عندما قال إن هذه المنطقة عبارة عن مستوطنة حيث قال له: (إنها القدس وليست مستوطنة).
وتعكس هذه الكلمة التي قالها سونينو افتراضاً شائعاً بين الرأي العام الإسرائيلي وربما بين وسطاء السلام الأجانب بين الفلسطينيين والإسرائيليين وهو أن مستوطنة معاليه أدوميم كبرى المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة يجب أن تظل جزءاً من الدولة العبرية بسبب حجمها الكبير وقربها من مدينة القدس المحتلة التي يعتبرها الإسرائيليون عاصمة لدولتهم. ولكن هذه الأحلام الإسرائيلية تلقت ضربة قوية عندما أعلنت حركة السلام الآن الإسرائيلية أن أكثر من ثلث المستوطنات الإسرائيلية مقامة على أراض مملوكة لأفراد فلسطينيين كملكية خاصة وهو ما يتعارض مع القانون الإسرائيلي نفسه الذي يحظر إقامة أي مستوطنات على أراض فلسطينية مملوكة ملكية خاصة. ويزداد الأمر صعوبة على المستوطنين الإسرائيليين لأن أراضي الفلسطينيين تمثل نحو 83 في المئة من إجمالي مساحة مستوطنة معاليه أدوميم وهو ما يعني - طبقاً للقانون الإسرائيلي نفسه - ضرورة إعادة هذه الأراضي إلى أصحابها الأصليين؛ فوفقاً للقانون الإسرائيلي لا يجوز إقامة أي مساكن أو منشآت مدنية على أراض مملوكة للفلسطينيين ملكية خاصة، ويسمح بذلك فقط في حالة الأراضي غير المملوكة ملكية خاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م.
وتعتبر الولايات المتحدة وأغلب دول العالم معاليه أدوميم وغيرها من المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير مشروعة وفقاً للقانون الدولي؛ لأنها أقيمت في أراض خاضعة للاحتلال. ولكن عام 2004 قدم الرئيس الأمريكي جورج بوش رسالة إلى رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت أرييل شارون تتضمن اعترافاً أمريكياً ضمنياً بحق إسرائيل في ضم المستوطنات الكبرى إليها في إطار أي ترسيم نهائي للحدود بين إسرائيل والفلسطينيين.
يقول بيني كاشرييل عمدة مستوطنة معاليه أدوميم الذي أعلن رفضه لتقرير منظمة السلام الآن بشأن إقامة المستوطنة على أراض مملوكة لفلسطينيين: إن المنظمة لطخت سمعتنا. وزعم أن مساحات صغيرة من الأراضي مملوكة للفلسطينيين داخل المستوطنة ولم يتم استغلالها. وأضاف أنه لا يريد استغلال وجود هذه الأراضي لتجريد (هذه المدينة الكبيرة) من الشرعية على الصعيد الدولي.
والمفارقة أن المسؤول الإسرائيلي يتحدث وكأن القانون الإسرائيلي الذي يجرم فقط البناء على أراض مملوكة ملكية خاصة للفلسطينيين كاف لسلب أراضي الفلسطينيين المملوكة ملكية عامة وإقامة المستوطنات عليها ومنحها الشرعية الدولية. وزعم كاشرييل أن معاليه أدوميم وغيرها من المستوطنات الكبرى أصبحت تتمتع حاليا باعتراف دولي باعتبارها جزءاً من أرض إسرائيل.
وبالطبع فإن الفلسطينيين الذين يعيشون في بلدة العيزرية القريبة من مستوطنة معاليه أدوميم يرفضون تصريحات كاشرييل حيث تحتفظ المجالس البلدية للبلدة بخرائط تعود إلى سنوات الانتداب البريطاني على فلسطين، وقبل قيام الكيان العبري، تؤكد أن هذه الأرض مملوكة للفلسطينيين. ويقول إبراهيم فارحون من سكان العيزرية إنه كان يمتلك مساحات من الأراضي التي أقيمت عليها مستوطنة معاليه أدوميم وكان يزرعها بالقمح. ولكن بعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية صادر الجيش الإسرائيلي هذه الأراضي لأغراض عسكرية حيث قال الجيش الإسرائيلي لسكان القرية الفلسطينية إنهم لن يستطيعوا بعد ذلك الوصول إلى أراضيهم شرق القرية بعد إعلانها منطقة عسكرية مغلقة.
وكانت مستوطنة معاليه أدوميم أول مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة حيث بدأ بناؤها في السبعينيات. يقول إبراهيم فارحون: (لقد صادروا الأراضي التي كانت مصدر عيشي في وقت من الأوقات. ما هو شعورك عندما تجد أن شخصاً ما جاء واستولى على أرضك ووضع فيها منزلاً متحركاً قبل أن يقيم فيه بناء؟) ليستولي على الأرض تماماً.
وفي ظل حالة أقرب إلى الجمود خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت مؤخراً في الاحتفال بذكرى أول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن جوريون ليعلن استعداد إسرائيل القبول بقيام دولة فلسطينية على أرض متصلة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ورغم أن كلام أولمرت ينطوي ضمناً على الإشارة إلى استعداد إسرائيل تفكيك عدد من المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة فمن المؤكد أنه لا ينطبق على معاليه أدوميم وهي واحدة من ثلاث كتل استيطانية كبرى تريد إسرائيل ضمها نهائياً إليها.
ويقترح المفاوضون الإسرائيليون مبادلة أراض غير مأهولة على الجانب الإسرائيلي من الحدود بين الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948 بهذه المستوطنات في أي تسوية نهائية مع الفلسطينيين. والمعروف أن معاهدات جنيف التي تنظم أوضاع البلدان الواقعة تحت الاحتلال تحرم على قوة الاحتلال نقل أي من مواطنيها للإقامة في الأراضي الخاضعة للاحتلال.
ولكن التقرير الذي أعدته منظمة السلام الآن الإسرائيلية عن حقيقة ملكية الأراضي التي أقيمت عليها المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية يمكن أن يفتح الباب أمام الآلاف من الدعاوى القضائية الفردية من جانب الفلسطينيين للمطالبة باستعادة الأراضي التي تمت مصادرتها وهي دعاوى يمكن أن تعيد رسم ملامح قضية المستوطنات تماماً.
في الوقت نفسه فإن هذا التقرير الإسرائيلي يمثل ضربة قوية لكل من الحكومة والمستوطنين الذين سيظهرون في صورة مجموعة من اللصوص الذين يعيشون في أراض مسروقة من الفلسطينيين. ويقدر عدد المستوطنين حالياً بنحو 250 ألف مستوطن. وفي حين أن الرأي العام الإسرائيلي أيد قرار حكومة شارون بإخلاء مستوطنات قطاع غزة منذ نحو عامين فإن هناك تأييداً قوياً للاحتفاظ بالمستوطنات الكبرى مثل معاليه أدوميم.
يقول جيرشون جرونبيرج المؤرخ الإسرائيلي وصاحب أول تأريخ للعقد الأول من النشاط الاستيطاني الإسرائيلي إن وضع المزيد من المعلومات بشأن المستوطنات أمام الرأي العام الإسرائيلي سيكون مفيداً جداً لأي جدل سياسي بشأن هذه القضية. وأضاف أنه من المفارقات الغريبة أن المستوطنات الإسرائيلية تواصل نموها في الأراضي المحتلة في الوقت الذي يتراجع فيه تأييد الرأي العام لها. ومن الواضح أن هذا التعارض بين الاتجاهين سوف يقود في لحظة ما إلى حدوث تحول سياسي.
يقول ياريف أوبنهايمر المتحدث باسم منظمة السلام الآن إنه في الوقت الذي رفض فيه مسؤولو الحكومة الإسرائيلية التعليق على التقرير فإنهم قالوا إنهم يحتاجون إلى بعض الوقت لدراسته. وأضاف أن المنظمة تأمل أن يؤدي التقرير إلى وقف توسيع المستوطنات.
ونعود إلى المستوطن سونينو الذي يقول إنه يشك في سلامة تقرير منظمة السلام الآن ولكنه لو كان قد تأكد من أن هذا التقرير سليم قبل أن يشتري شقته في هذه المستوطنة فإنه كان سيتراجع عن قرار الشراء. ويضيف أن الأمر الآن لا يعنيه لأن لديه وثيقة تقول إنه اشترى الشقة من الحكومة الإسرائيلية وهي لم تقل أبداً إن هذا الجزء من الأرض غير مملوك لإسرائيل. ولو كنت أعلم أنه غير مملوك لإسرائيل لما أتيت إليه على الإطلاق.