ما هي قدرة الإنسان على التغير؟ ما هي الحدود الفاصلة بين الحق والباطل؟ ومن ذا الذي يضع تلك الحدود؟ تلك هي الأسئلة التي يطرحها فيلم (حياة الآخرين). وهو فيلم مرشح لجائزة أحسن تصوير خارجي وجاء في مسابقة الأوسكار ليحصد سبع جوائز لولا الألمانية (المنظرة لجوائز الأكاديمية) وجوائز الفيلم الأوروبي لأحسن فيلم وأحسن ممثل (أولريش ميو) وأحسن كاتب سيناريو.
الفيلم يتناول ألمانيا الشرقية قبل أربع سنوات ونصف من سقوط حائط برلين. وهو يجسد حياة النقيب جرد فيسلر، بولريش ميو، وهو ضابط في الشتاسي أو البوليس السري حيث يؤمن بكل كيانه في العمل الذي يؤديه بانه في خدمة الوطن والحزب الحاكم. يسلك فيسلر شعار الشتاسي الذي يناسب طبيعة عمله لكي يعرف كل شيء وبكل جدية.
يظهر فيسلر كشخص هادئ الطباع، دمث الخلق إلى حد ملفت، حيث يبحث في قضية أحد السجناء الذي فر جاره إلى الغرب. يبدو فيسلر وهو يعرض شريطا من الأسئلة المسجلة التي طرحها على هذا السجين ليعلّم الجيل الجديد من ضباط البوليس السري كيف أن التنويم المغناطيسي لبضعة أيام تجبر السجناء على الاعتراف.
يؤدى فيسلر عمله وتدريبه بأمانة شديدة. وهو يجسد نموذج للرجل المستقيم معتقداً بصحة ما يقوم به من عمل كما انه يحترم النظام بشدة ولا مجال للنقاش فيه. يجتمع الأشخاص والأحداث في تكوين حبكة الفيلم عندما يدعو المقدم جروبيتس، زميل فيسلر في مدرسة الشتاسي ويجسده أولريش كوكور، ذات مساء لحضور أحدث مسرحيات جورج دريمان، سيباستيان كوخ، وهو فتى الحزب المدلل وأحد المفكرين القلائل المؤيدين للحزب شفهياً على الرغم من صداقاته القوية لبعض الفنانين المناهضين لشعارات الحزب.
أما جروبيتس فقد كان منشغلاً بتملق رؤسائه من جهة، وفي نصب مقصلة كيان قوة الحزب للبتّ في أمور عديدة مثل الحق والباطل أو الاهتمام بأمور مزعجة مثل القضايا الأخلاقية.
وعندما طلب منه الوزير برونو هيمف، توماس تيم، أن يفتح ملف للسيد درايمان الرجل المستقيم، استجاب بلا نقاش ربما لأنه يود أن يكون الخادم الأمين للوزير. قام جروبيتس بطلب فيسلر للمثول أمام القضاء في تلك القضية؛ وأسرع من لمح البصر قام رجال الشتاسي بتفتيش منزل درايمان وقلبه رأساً على عقب. في هذه الأثناء احتجب فيسلر في مكان مهجور تحت عمارة منزله.
وسرعان ما بدأ يتصنت على مكالمات ولحظات درايمان الخاصة عندما انغمس في عالم الفن مع صديقته الفنانة كريستا ماريا (ماريتنا جيدك) وهى ممثلة مشهورة وموهوبة تلعب دور البطولة في مسرحيته.
وعندما كان فيسلر يراقب على كريستا ماريا في إحدى الليالى، رآها قادمة للمنزل بسيارة فارهة؛ اتضح أنها ملك الوزير هيمف وهنا طلب جروبيتس منه إخفاء تلك المعلومات. هنا اكتشف فيسلر لأول مرة أن القائمين على الحزب الحاكم أحياناً ما يأمرون بأشياء غالباً ما تكون لأغراض شخصية وليس لمنفعة الحزب. وفى الوقت الذي قام فيسلر بدراسة درايمان والاقتراب من حياته أكثر رأى حماسة الرجل وطيبته وبدأ يتساءل عن سبب وجوده في هذا المكان وعن سبب ما طُلب منه لتحطيم حياة هذا الرجل. ولكن يوجد شئ ما اعترى حياة درايمان، عندما كان يهاجم الكاتب المثالي بسبب إحباط صديقه العزيز المخرج البرت جرسكا الذي أوقفته الحكومة عن العمل المسرحي لمدة سبع سنوات بعد حديثه ضد الحكومة.
قام أصدقاء درايمان من الكتّاب المتحررين بالضغط عليه لكي يضع حداً لتأييده للحزب الحاكم. وتتفجر الأزمة عندما يكتشف درايمان أن كريستا ماريا تخدعه.. مع من.. ولماذا.. وعندها اهتز عالمه الفكري من مخدعه. يشاهد فيسلر كل تلك الأحداث من منظور درايمان وبالتالي ينهار هو الآخر.
السيناريست فلوريان هنكل فون دونرسمارك جعل أول ظهور لفيلمه تدق له الأجراس طرباً وجعل القصة محكمة حيث يركز على فيسلر ودرايمان وهم يتنقلون ما بين التواصل الفلسفي والنفسي كاشفين النقاب عن تغيرات دقيقة في شخصياتهما بإحكام وتروٍّ.
وعلى الرغم من أن باقي الشخصيات خاصةً كريستا ماريا من جانب وجروبيتس والوزير هيمف من جانب آخر تبرز أهميتهم في كونهم محفزين حيث يقومون بتفعيل الأحداث، فقد كان فون دونرسمارك يركز على كيفية تأثير كل منهم على فيسلر ودرايمان وتغييرهم.
وفنياً، يظهر تصميم المناظر كئيبة ومظلمة حتى يتلاءم مع وضع ألمانيا الشرقية تحت مراقبة الشتاسي الظالم كما أن المشاهد السينمائية تطرح العديد من المشاهد الصغيرة والمركزة على فيسلر وهو يسترق السمع على درايمان وحياته الخاصة. كل هذا كان في صالح العمل فقد نجح ميو على نحو ما في التحكم في وجه غير معبر ونقل تعبيرات من خلال مجموع كلامه أو كثرة التحديق.
وقد قام جيدك بأداء سيئ جعل كريستا ماريا تعود للحياة كضحية أخرى للنظام الذي بدأ بالمثالية وانتهى بالفساد. كما جسد كوخ شخصية درايمان وهو بالفعل الرجل المناسب لتلك الشخصية الذي تمكن من خلق التوليفة الصحيحة التي تجمع ما بين الدفء والذكاء.