Culture Magazine Thursday  14/02/2013 G Issue 396
فضاءات
الخميس 4 ,ربيع الثاني 1434   العدد  396
 
ما بعد الديكتاتوريات 2ـ 2
فقدان الأهليّة المدنيّة
ياسر حجازي

 

(د)

يقول الشيخ يوسف القرضاوي في حلقة: الإسلام والدولة المدنيّة، من برناج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة فبراير/2012: «إنّ الدولة الإسلاميّة هي دولة مدنيّة بطبيعتها، فحكّامها أشخاصٌ عاديّون، فهم لا يتلقّون وحياً»؛ ويتّفق معه في هذا المنطق عدد من مُنظّري التيّارات الإسلاميّة السياسيّة. وهو منطقٌ يلتقطُ جانباً واحداً للدولة الدينيّة بشكلها الكنسيّ الأوروبيّ ويتغاضى عن جوانب أخرى، لأنّه مطمئنٌّ في ظنّه التسويقيّ إلى نفي هذا الجانب عن رجال الدين الإسلاميين وهو نفيٌ للشكل ولا يرقى أن يكون نفيا للمضمون، إذ لا يختلف المضمون عن ولاية الفقيه الشيعيّة والحاكميّة لله السنيّة، لذلك لا يمكن عقلاً أو قراءة في الوقائع حصر الدولة الدينيّة بالوقوف عند إدّعاء تلقّي الوحي والعون من الروح القدس والتغاضي عن جوانب عدّة في صميم الممارسات الدينية-السياسيّة، مثل: مسألة عدم خضوع التشريعات الدينيّة وطبيعتها التمييزيّة للمساءلة العقليّة لأنّها -في زعمهم- ضمن حكمة الروح القدس/وصاحب الولاية/وممثّل الحاكميّة، وهذه الحكمة لا تعمل مع مسار العقل أو المنفعة كما يتخيّلها العقل الإنساني العلمي، ولذلك فإن القوانين الطبيعيّة الوضعيّة شرٌّ مطلقٌ، مسألة الحقيقة النهائيّة، مسألة تمييز الناس بمعيار التقوى، بإيجاد طبقتين أخلاقيّتين وفق مفهوم الراعي والقطيع: دينيّة تمثّل الحقّ والكمال والنضوج والطهارة وأخرى رعيّة تمثّل الفساد والضلال والجاهليّة.

(ه)

ولئن كان إفتاء الإسلام السياسي يعتمد المرجعيّة الأوروبيّة في ضبط تعريف الدولة الدينية لإبعاد (التهمة عنه) فإنّه بالمقتضى يعترف بمسألتين في غاية الأهميّة:

الأولى: إنّ نفيه أن يكون داعية دولة دينيّة يقتضي أنّه مؤيّدٌ لدولة مدنيّة، وهذا المقتضى قد يوحي بإيجابيّةٍ، لكنّه يعقّد التفاوض ويُلغي الحوار، لأنّ الصراع في نظرهم ليس على دولة دينية أم مدنيّة، إنّما خلاف على الدولة المدنيّة شكلاً ومضموناً: (مدنيّة-دينيّة أمْ مدنيّة-علمانيّة؟)؛ ومأزق هذه المسألة أنّ ادّعاءات خطاب الإسلام السياسي بتأييد المدنيّة يتعارض مع اعتماده للفرز التمييزي الديني في إدارته واستغلاله للوسائل المدنيّة، بحيث يتوجّه لمعتقد الناس بتقليص حقوقهم في الاختيار السياسيّ، حين يُعرّض مفهوم التقوى لديهم لميزان سياسي ديني، فأيّ إرهاب فكريّ وسلوكيّ في هكذا خطابٍ!

الثانية: إنّ اعتماده على المرجعيّة الأوروبيّة في ضبط وتحديد مفهوم الدولة الدينيّة، يلزمه اعتماد المرجعيّة ذاتها في ضبط مفهوم المدنيّة-العلمانيّة، التي ترجع المفهوم العام إلى معناه الأوروبيّ: أنّ الدولة لا دين لها، فهي بطبيعتها مدنيّة، فالدين خصوصية الأفراد والدولة ليست فرداً.

(و)

أمّا رجال الدين الذين لا يزعمون قدسيّة آرائهم وقطعيّة حقائقهم، ويحتكمون للقوانين المدنيّة ولا يخلطون بين التقوى الخاصّة ومفهوم المساواة في الحقوق والواجبات المدنيّة فإنّ أعمالهم السياسيّة تُعَدّ مدنيّة-علمانيّة بطبيعتها، إذ ليس اشتراطاً أن يسقط معتقد الفاعل الخاص على أفعاله ما لم يخلط بينهما؛ فكونك مُسلماً وتمارس مع دول العالم تجارةً وسياحةً ورياضةً وغيرها من الأنشطة وفقاً لقوانين عالميّة-علمانيّة فلا تعارض في ذلك، وكونك تلتزم مع العالم بالمعاهدات والاتفافيّات الدوليّة ومكافحة الإرهاب والمخدرات والدعارة وتجارة الرقيق وتبيض الأموال وفق قوانين عالميّة-علمانيّة فذلك لا يعني أنّك خالفت إسلامك.. فلماذا في السياسة -تحديداً- يرفض الإسلامُ السياسي المدنيّةَ-العلمانيّة ويحاربها، ويصرّ بأحاديّة وإقصائيّة على وجوب العودة تقليداً لفهم السلف الظرفي لأصول الشريعة، وانتقاءً لأحكام ظرفيّة من المدوّنة السلفيّة لا تصمد اليوم أمام اختبارات الصلاحيّة الواقعيّة لتغيير العلل الزمانيّة والمكانيّة.

(ز)

وعلى أساس التعريف القرضاوي -ومن يتصوّر المنطق ذاته في حجّته- فإنّ أيّ مستخفّ بالفكر والسياسة يمكن أن يصنّف أمريكا أنّها دولة دينية أثناء ولاية الرئيس بوش الابن، لطالما كان يدّعي تلقّيه وحياً يلهمه ويساعده في حروبه، لكنّ المسألة في هكذا أنظمة ذات مؤسّسات مدنيّة-علمانيّة أنّ مضمونها لا يتأثر ولا يتوقّف على رئيس متطرّف دينيّاً، فإنّه يبقى عاجزاً عن تغيير النظام المدني، على الرغم من تأثيراته الكوارثيّة على صُعدٍ أخرى. أليس في تعريف القرضاوي وأنصاره مواربة وظنيّة بإبعاد الإسلام السياسيّ عن أسطورة الدولة الدينية لاستغلال الوسائل المدنيّة التي تمكّن له استبداده ووصوله للسلطة والتفرّد بها، فكيف يمكن أن يقوم حوار بين الأفرقاء حينما تطرح مسائل الأحوال الشخصيّة والحقوق والتعدّديّات، حين يتصوّر طرفٌ امتلاكه للحقيقة النهائيّة القطعيّة في هذه المسائل.

إنّ خلل الأفرقاء كامنٌ بعدم تحديد المفاهيم والمخاوف المتنازع حولها: (أ) ما مفهوم الدولة الدينية لدى التيّارات المدنيّة-العلمانيّة وما هي مخاوفهم تحديداً؟ هكذا على الإسلام السياسيّ أن يفكّر إذا أراد تشكيل دولة لا يقتصر مكوّنات الدولة على تيّاره وتشريعاته، إذ إنّ كثيراً من ممثّلي هذا التيّار الذين يتصدّرون الإعلام في دول الربيع العربي والخليج لا يبدو على أفكارهم وممارستهم على الواقع مصداقيّة أو أهليّة لتكوين كيان يجمع مكوّنات الدولة. (ب) ما هي الدولة المدنيّة-العلمانيّة التي يخافها الإسلامويّون، كيف يمكن أنّ يفصل الإسلامويّ بين معتقده الخاص وبين العمل السياسي؟ هكذا يجب أن يفكّر العلماني السياسي، علماً بأنّه قد تورّط في مأزق الإقصائيّة عينها، وصرتَ لا تُدرك أيّ دولة يمكن أن تجمع هذين المتعارضين الفاقدين للأهليّة المدنيّة الجامعة، اللذين يعتمدان في تصوّراتهم لشكل الدولة الحديثة على تطلّعات تخترل الوطن في تيّار دون آخر.

(ح)

إنّ وجود الدولة المدنيّة المعاصرة الضامنة لجميع مكوّناتها ليست مسألة تُعاق أو تُفرض بموجب أشخاص يرفضونها أو يؤيّدونها، بل تطوّر عالميّ مؤسّساتي، وهي حالّة بقوّة بأيّة دولة تريد النهوض واللحاق بركب التقدّم؛ وبغضّ النظر عن التسميات، فإنّ أيّ دولة في العالم لا تشرعن حقوق الناس في التديّن واللاتديّن، ولا تفصل بين هذه الحقوق والحقّ السياسي تحت مبدأ: (لا ضرر ولا ضرار/ أو حدود حريّتك تنتهي عن حدود حريّتي) فإنّها ليست نموذجاً للدولة المدنيّة المعاصرة، وإن كان الاسم والمسمّى إشكالا، فلا يجب أن يكون عائقاً، لأنّ القيمة في مخرجات ذاك النظام السياسي وليس في مسمّاه.

إنّ تجارب الإسلام السياسي في المنطقة العربيّة ليست يسيرة، وليست مؤشّراً مدنيّاً أو تقدّمياً، فاستئثار السلطة والأحاديّة أساس في تلك التجارب، لكن اليأس أنّك على الصعيد الآخر، تجد الحركات المدنيّة العربيّة في تيه عاجز، فلا هي قادرة على إدارة التفاوض مع الإسلام السياسي ومحاورة جماهيره، ولا هي قادرة على غلبته سياسيّاً بالاعتماد على أدواتها المدنيّة، إذّاك فإنّ الغرابة أنّها تفكّر وتُخطّط وتنفّذ في تغيير أدواتها، واستعارة أدوات خصومها بدءاً بالمواربة والتلوّن والتُّقْية وتوزيع الخبز والزيت وليس انتهاء بالإقصاء المسلّح، حتّى لكأنّك تسمع خطاب هذا وخطاب ذاك فما تدري هل أنتَ أمام خطابين أم خطاب ٍواحدٍ بوجهين.

فهل نحن مقبلون على حروب أهليّة اضطراريّة بين أفرقاء لا يريدون أن يكون الوطن للجميع، هذا على مبدأ الحاكميّة لله يفرّق به ويلغي كلّ مكوّنات الدولة إذا لم تكن تحت عباءته، وذاك تحت مبدأ لا حريّة لأعداء الحريّة فتضيق الدولة في حدوده. هكذا تبدو التيّارات المتنازعة على السلطة فاقدة للأهليّة المعتبرة مدنيّاً، إذ يرى كلّ تيّار أن الدولة قد تقع تحت احتلالٍ أهليٍّ من الفصيل الآخر، فتكون أجندته السعي للاستقلال الأحادي عبر (احتلال الوطن) باللجوء إلى العنف المسلّح وعماء الدم بتصفية الآخر؛

ثُمّ..(الحُكْمُ فيهم لِمَنْ غَلَبْ).

Yaser.hejazi@g.mail.com - جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة