عرفت العبقرى المتعدد المواهب: جبران خليل جبران منذ عام 1378هـ عندما اشتريت كتابه الممتع: البدائع والطرائف من مكتبة المعارف بالطائف، وكنت وقتها أدرس في معهد دار التوحيد واشترى الكتب والمجلات، وأميل إلى كُتب الأدب والشعر، ولا تزال نسخة هذا الكتاب عندي منذ ذلك الوقت.. وقد شاخت وبهتت.. ولكن محتواها الأدبي ظل خالداً مزهواً.. يتحدى الزمن.
والخلود.. هو عزاء الأديب والشاعر والفيلسوف، وهو تعويضه الوحيد بعد الموت: والذكر للإنسان عُمر ثانٍ أو باقٍ.. وعندما زرت لبنان لأول مرة عام 1969م (صيفاً) حرصت على الذهاب إلى (بشرى) عند وادي قاديشا في الأرز الأعلى، حيث ولد هذا العبقري، وشاهدت متحفه وضريحه في مغارة قريبة في الجبل، بعد نقله من أمريكا (بوسطن) بسنوات وفي عام 2006م زُرت بيته لأول مرة وصوّرت فيه، ويا له من بيت أكثر من متواضع.. غرفة مستطيلة فيها موقد للنار، وبعض سجاد وأواني وسرير حديد، تحولت ألوانها بفعل الزمن وبهتت، وتقاوم الإندثار.. وفي المدخل شُرفة مسقوفة وكل البناء بالحجر ولذا قاوم قرن من الزمان أو أكثر، وهو سن كبير.. هذا هو كل بيت جبران وأهله.. وهذا ما دفع العائلة كلها بعد موت الأب إلى الهجرة للدنيا الجديدة (أمريكا) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بحثاً عن لُقمة العيش، وهرباً من الفاقة والفقر.. هكذا كان جُبران الفيلسوف والصوفي والرسام والكاتب والشاعر والأديب... إلخ. ولد فقيراً.. ومات معوزاً؟.. ولولا أن السيدة الأمريكية: ماري هاكسل عطفت عليه لمات من الفقر، مع أنه لم يعمر.. ومات هناك بعد أن تعدى سن الأربعين، بسنوات قليلات.. ونقل جُثمانه بعد سنوات طويلة إلى لُبنان.. قُرب مسقط رأسه.
نعود لكتاب الرسام والشاعر والكاتب اللُبناني: يوسف الحويّك (ذكرياتي مع جبران باريس 1909ـ1910م) وهو صديقه وزميله في الفن، وحكى عنه أشياء لا توجد في الكتب الأخرى التي كتبت عن جبران، وإن كان كتاب ميخائيل نعيمه عنه أضخم وأشمل، وقد عاصره فترة طويلة في أمريكا، وهو كاتب لامع مثله وقد عمر طويلاً ومات في (بسكنتا) لُبنان قبل سنوات قليلة، وترك مؤلفات كثيرة وديوان شعر، بل كان المنافس الوحيد لجبران في التأليف من جيله، وكان مع الريحاني في الرابطة القلمية أثناء حياتهم المهجرية في أمريكا.
الكتاب صغير يقع في 220 صفحة ولكنه دسم وحافل ويعطي انطباعاً نفسياً وأخلاقياً وسلوكياً لجبران، الرومانسي الفنان الذي عاش للفكر والفن والأدب أكثر مما عاش للهو والعبث. وقد طبعت الكتاب مؤسسة نوفل ببيروت طبعة ثانية عام 1979م وحررته: ادفيك جريدي شيبوب وهي كاتبة لُبنانية مغمورة. عدت إلى قراءة هذا الكتاب الشيق بعد سنوات طويلة من شرائي له واطلاعي عليه، وهكذا فقليل من الكتب كالقليل من الأوفياء من البشر، تعود إليهم حتماً ولا تقوى على نسيانهم.. تقول السيدة شيبوب في مقدمتها للكتاب.
(جبران الحالم العينين، النحيف البنية، المتبرم بظروف عيشه القاسية، تتنازعه عوامل القلق، وتعج برأسه واحات بكر من الاكتشافات الفكرية والمشاعر الرهيفة. وهو بعيد الطموح يتوق لإصلاح الكون ولاطلاع الناس على آرائه ونظراته الإصلاحية، وتهمّه الشُهرة والاسم العريض، يتمنى في سره لو يُدرّ عليه أدبه وفنه شيئاً من المال ليحلق بجناحين يعشقان الحرية وينفق من كده في سعة، وكيف شاء).. ويقول عنه زميله وصديقة في باريس يوسف الحويك:
(لم يكن جبران إبان وجوده في باريس (دون جوان) كما يزعم البعض؟..)؛ وهذه الشهادة المختصرة إشارة واضحة من صديق مطلع على الأسرار بأن جبران، كان كما قرأناه في كُتبه، متطهراً أخلاقياً ومتسامياً على الغرائز، وفيلسوفاً وصوفياً زاهداً يعيش في مرحلة تاريخية غير مرحلتنا، سادت فيها الرومانيسية والأخلاق، والتعفف والحياء، فمن يُقيّم جبران أو غيره بمقياس عصرنا واهم.. وقد مات مأسوفاً عليه في عام 1931م وما زال ذكره يملأ الآفاق، وكُتبه تُطبع لعشرات المرات.
لقد عاش جبران فقيراً في حياته، ولكنه ظل غنياً معنوياً قبل وبعد موته، فسلام عليه في الخالدين.
- جدة