Culture Magazine Thursday  14/02/2013 G Issue 396
فضاءات
الخميس 4 ,ربيع الثاني 1434   العدد  396
 
المناهج الحديثة: النصف الممتلئ(1)
د. عمر بن عبد العزيز المحمود

 

لا يختلف اثنان على أن خدمة النص الأدبي والكشف عن أسراره وجمالياته من أهم وظائف الناقد أياً كان المنهج الذي ينتمي إليه، ولا شك أن تفاوت النقاد في الجودة والتميُّز راجعٌ بالدرجة الأولى إلى الوعي بأهمية هذه الوظيفة، والقدرة على تأديتها بأكمل وجه وأحسن صورة، ولا شك أن أصحاب المناهج النقدية - سواء القديمة منها أو الحديثة - كانوا يرون ضرورة القيام بهذه الوظيفة، والحرص على الوصول إليها وتحقيقها، حتى يتمكن المتلقي من فهم النص واستيعاب ما يريد المبدع أن يقوله فيه.

صحيح أن هذه المناهج تختلف من حيث مستوى النجاح الذي تقدمه في هذا السياق وفقاً للآلية التي تعتمد عليها في مقاربة النص الأدبي، وبناءً على الخلفية الفكرية التي تنظر من خلالها إليه، غير أنها تتفق جميعاً في أن فهم النص والكشف عن قيمه الدلالية والجمالية هدف مهم ينبغي على المنهج تحقيقه والوصول إليه.

وسبب ابتدائي بهذه المقدمة ما ذكره لي أحد الزملاء بعد قراءته لسلسلة مقالات سابقة كنت أنتقد فيها - بشدة حسب رأيه وبموضوعيه وفقاً لما أراه - هذه المناهج، وأُبيّن الخلل الكبير الذي تحدثه حين تبغي مقاربة النص الأدبي، وأحاول أن أتلمس الإخفاقات الفاضحة التي تقع فيها، والمآزق المتعددة التي تنزلق إليها أثناء سعيها لتأويل الخطاب الإبداعي، وهي إخفاقات ومآزق أحسب أنها واضحة للعيان، وحتى لو لم تكن كذلك فإن الواقع الثقافي يشهد بالفشل الذريع الذي وقعت فيه هذه المناهج، والعجز عن إرضاء المتلقي، وتقديم ما يأمل فيه من النص الذي يحاول التواصل معه.

وقد أبدى صاحبنا موافقته التامة فيما ذكرته في هذه المقالات، غير أنه ذكّرني بأن العدل ينبغي أن يكون منهجي في دراسة هذه المناهج، وأنه يجب على الناقد أن يُبيّن الصورة الكاملة للمتلقي أثناء معالجتها، وألا يقتطع المنهج النقدي عن سياقه، وهذه الطريقة في المعالجة من شأنها أن تكشف عن الإيجابيات والسلبيات جميعاً، ومن هنا يكون المتلقي قادراً على الحكم على هذه المناهج، وقياس مستوى نجاحها في تأويل النصوص والقدرة على الوفاء بمتطلبات القارئ وتحقيق أمله فيها.

والحق أني أتفق معه في هذه الرؤية تماماً، ليس في الحديث عن المناهج فحسب، بل في كل أمر يريد الكاتب أن يتحدث فيه، بل إن هذه الرؤية هي العدل والحق، وهي التي دعا إليها القرآن الكريم حين قال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، رغم أن اختلافي مع هذه المناهج وانتقادي لها ليس بسبب أنها غربية، وسعياً إلى القرب من التقوى فإني أرى ضرورة تخصيص مساحة للحديث عن إيجابيات المناهج النقدية الحديثة، لكي تكتمل الصورة، ويعي القارئ ما لها كما وعى سابقاً ما عليها، رغم أنني تحدثت عن بعض الإيجابيات في سياق انتقادي لها، غير أن هذا التخصيص سيتيح مجالاً أكبر لوضوح اللوحة وتحقيق العدل المنشود.

وأبدأ بالمناهج النقدية التي توصف بالقديمة، وهي المنهج التاريخي والنفسي والاجتماعي، فهذه المناهج رغم أنها تهتم بخارج النص أكثر من داخله، وهو عيب كبير بلا ريب، غير أن لهذا الاهتمام إيجابيات من العدل الالتفات إليها والتنبيه عليها، فمعرفة المؤلف وتاريخ إنشائه للنص الإبداعي والمناسبة التي قيل فيها والمقام الذي أبدع من خلاله والفترة التي كتبها فيه والعصر الذي يحيط به، كل ذلك من شأنه أن يساعد في تفسير النص، ويسهم في الكشف عن كثير من القيم الجمالية والدلالية التي لم تكن لتظهر لولا معالجته وفق هذا المنهج.

وقلْ مثل ذلك في المنهجين الاجتماعي والنفسي، فالمجتمع الذي يعيش فيه المؤلف والثقافة التي يحملها، والديانات التي يعتنقها، والعادات والتقاليد والأعراف التي تنتشر في أوساط أفراده من المهم معرفتها واستيعابها، سواء أكانت تلك التي تتصل بأعرافهم العملية أو القولية المتعلقة بالأسلوب واللغة، فالمبدع يعيش في هذا المجتمع، وطبعي أن يتأثر فيه، بل إنه يخاطب فئاته المختلفة، ولا يمكن تأويل نصوصه دون الإحاطة بكل ذلك، وقد رأينا كيف يُعالج شراح الدواوين نصوص شعرائها من خلال الاعتماد على السياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية والدينية، وكيف أنه لا يمكن لهم فهم هذه النصوص دون أن يكونوا ملمين بذلك، كما أنه لا يمكن للمتلقي أن يستوعب تأويلهم ويفهم الزاوية التي نظروا من خلالها إلى النص دون أن يعي أبعاد هذا المجتمع من جوانبه كافة.

أما المنهج النفسي، فأحسب أنه أوضح هذه المناهج الثلاثة، ويكفي أن نطلع على آراء الشرّاح والمفسرين في تأويل نصوص كثير من الشعراء، لندرك أن كثيراً من مستويات التفاوت في التأويل راجعة إلى الوعي بشخصية الشاعر والإلمام بجوانبها النفسية التي تميزه عن غيره، وقد يتفق المبدعان في دلالة نص من النصوص، لكن المفسر يؤول كلاً منهما بتأويل مختلف حسب معرفته بنفسية الشاعر التي سيكون لها الأثر الأكبر في توجيه الدلالة ووضوح المقصد والتأويل.

omar1401@gmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة