Culture Magazine Thursday  14/02/2013 G Issue 396
فضاءات
الخميس 4 ,ربيع الثاني 1434   العدد  396
 
مرآة الغريبة
بثينة إبراهيم

 

تقول العرب: «إن الغريب كالغرس الذي زايل أرضَه وفقد شِربَه، فهو ذاوٍ لا يثمر، وذابلٌ لا ينضُر»، وما الذي قد يرتجيه غريبٌ في ديارٍ ليست دياره، وهذه الأخيرة تنأى وتمنحه على البعد زفراتٍ تكاد تزهق روحه؟! لمَ على الليل أن يكون مأوىً لهالات الوجع، تضيء فتضويني «أنا الغريبة»؟!

) في نزوحٍ قديمٍ، حملت أمي ضمّةً من ترابِ بلادٍ وُلدنا بها، كأنها تعيد سيرةَ أجدادِها فلا يسافر أحدهم دون هذا الزاد، لأنه أشفى للزكام أو الصداعِ، أو حتى الحنين! وما زالت تلومُ نفسها أنها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، في أرضٍ محروقةٍ وسماءٍ مفخخّةٍ بطيور رخٍّ ما أبقت للسندباد بلد عجائب يحلم بها، يطوف غريباً عابراً ثلاثة أنهرٍ وبحرين!

) لم يبقَ لي سوى قلبٍ مغلّفٍ بضباب، تحولّتُ إلى تلك الحمامة اللاهثة، غير أني لم أنقل سوى خيبة، هناك في ظل شجرة للدفلى، دفنتُ ذخيرتي.. حكايا أو شتات، ضغث حلم وكسرةَ من خارطة وطنٍ يُقال إني سأعود إليه يوماً، في كل ليلة أدسُ تحت المخدة ضمّة من زعفران لعلي أحظى بحلم ملوّنٍ يمسح آثار الهباب!

) يصيحُ ديكٌ في الجوارِ، ربما آن أوانُ الصمتِ كما يليق بشهرزاد لكني لستُ هي، الكلماتُ تختلطُ أمام عيني شبه المغمضة وتلتصق بضلعي الأعوج، ليس هنالك سبيلٌ للصمتِ..

يصيحُ الديكُ: نامي! أغمض عينيّ خداعاً تحت ضوء «النيون» ما زلتُ أخاف من الظلمة.

كنتُ دوماً مثل من يمشي على حبال، لكني لست مهرجاً، وأثبت خطوي دون الحاجة لعصا توازن، ما حدث أنني منذ فقداني لوطني سقطتّ من علٍ فتفتت فيّ كل ضلعٍ وصرتُ طحيناً «بجعجعة»!

) ما الذي قد تمتلكه غريبةٌ مثلي سوى كلمات جعلتُها مرآةً، أتفقدّها وأُعنى بها ما دمتُ في غير أهلي! فأجعل من الألف ذراعاً ومن الباء هوية، ومن الجيم وجهاً آلفه ويألف لي ومن العين أهلاً ومن الياء غيمة، وما زلتُ مثل مالك الحزين بانتظار سانحةٍ ملوّنةٍ تمرّ فتمنح سمائي لوناً أزرق بدلاً من السواد الذي اتشحت به ربيعين وأكثر، حداداً على العصافير التي تشنَق إن أعلنت انشقاقها، فأحارب بسيوفي التي من ورقٍ، كومة مشانق تأجج فيها اللهب..

أعرف أن طريق العودة منهِكٌ وليس لي راحلة، لكني ما زلت أسعى في رحلة استسقاءٍ علّ الوسمي يهطلُ وطناً هذا الربيع!

) أتسلّى عن الحظوظ والخطوب بقراءة «أدب الغرباء» و»الحنين إلى الأوطان»، فلا الأصفهاني شفاني مما ألاقي، ولا الجاحظ داوى جرحي الذي يتحول إلى ندبةٍ، كلما سهوتُ عنها برزت على كفي وجبهتي، تصير حفرة تمتد فتثقب القلب وأردمها بكلماتٍ أثق كثيراً أنها تشبه الغراب الأعرج!

) قرب النافذة يغرّد طائرٌ لستُ أعرف نوعه، لكنه من نوع الطيور التي كانت تغدر بي في الأيام الماطرة في مدينتي، فأخرج بلا مظلة! يجيب عن سؤالي الوشيك الذي أَحسَ به عبر الزجاج القاتم: معاذ الهوى! وكلّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ! فألملم شعث الحديث وأصمت... أضاحك ظلي..لأؤنس وحدتي! كلما تثاءب المساء، أنبأني بصباحٍ ضجِرٍ، وأبدأ دورةً جديدةً من البؤس المحلّق في بضع كلمات أسوقها مثل قطعانٍ شاردة، يمرّ بها العابرون غيرَ آبهين، يحملون بعضها أو لا يحملون، ولكن الأكيد أنهم ينصرفون فلا تجد لها قبلةً سوى النسيان!

) حرفي يقرأ فيّ سنين يباس، أفلا أذخر الماء حيث أصيبه؟!

- القاهرة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة