إن الأيديولوجيات، رغم كونها مركبات من التصورات والقناعات الوهمية، وغير المطابقة للواقع أو المقنعة للوجود الفعلي، يمكنها أن تمارس تأثيراً بالغاً في حقيقة العالم الواقعي.. ويأخذ استعمالها هذا التأثير بعين الاعتبار، حين تستخدم الأيديولوجيات في الصراع من أجل الاحتفاظ بمركز القوة أو موقع السلطة، ضد أعدائها ومناوئيها. فالأيديولوجية ترى عدوها دوماً وأبداً في أتباع ومعتنقي الموقف المضاد؛ فمن الأسباب النفسية الكامنة وراء هذا الموقف الذي يتخذه الأيديولوجي، أنه يرى أن الطرف الذي لا يجاريه في تفكيره هو عدو الحقيقة، والخصم الذي ينبغي فضحه، لكي يتسنى للنظام الأمثل أن يصبح حقيقة واقعة. ويقول في ذلك هانز فراير: «إلى هذا الحد يؤلف العدو... في الواقع المضمون الجوهري لمعظم الأيديولوجيات». إن معتنقيها والمؤمنين بها يعدون من واجبهم تحطيم قوة الخصم وخفض شوكته، لكي يتاح للتعاليم الحقة وحدها أن يسري مفعولها على العالم أجمع. ولا يتهيب هؤلاء تشويه الحقيقة أو تلقيها متى كان الأمر متعلقاً بوصم نظرة العدو ودمغ تصرفاته العملية. كما أنهم يغذون خيال أتباعهم بالتصورات الوهمية، عندما يقومون بوصف عالمهم الخاص، لكنهم يقدمون التضحيات ويتحملون الآلام بغية الوصول إلى الهدف المنشود.
إن كل أيديولوجية ترى عدواً لها في المعتنق لأيديولوجية أخرى، لأنه يخاصم التعاليم «الحقة» والنظام الصحيح، ويقف بوجه كليهما موقف المعارض. أما أسوأ أعدائها فتراهم بين الذين شقوا عصاً الطاعة عليها، وارتدوا عنها، أو أصبحوا من المنشقين والهراطقة. ويجري تعقب هؤلاء واضطهادهم في كراهية مميتة. فالمؤسسات التي تمتلك أيديولوجية برهنت على ذلك عبر سير التاريخ، يظهر رد فعلها ضد العدو الخارج من صفوفها، بأن تعده الخطر الرئيس على تماسكها الداخلي ووحدتها، ويمثل بنظرها خميرة الإفساد والتفكك؛ فهو يحارب هذه القضية بأسلحة أشد مضاء وفتكاً من أسلحة الخصم الأيديولوجي، لأنه يعرف مواطن الضعف والعيوب والنواقص لدى الأيديولوجية التي تركها وتخلى عنها. فهذا الاضطهاد يرجع في النهاية إلى اقتناع الأيديولوجيين بأنهم وحدهم يستأثرون بامتلاك الحقيقة؛ ومن كان ينتمي إلى التعليم الحقيقي الأوحد، ثم شق عصا الطاعة عليه، يستحق اللعنة والإدانة.
فلماذا تتعسف الأيديولوجيات الحقيقة؟
وما وسائلها في ذلك التعسف؟..
أظن السبب لا يقع في الكم الكبير والاهتمام الشديد بالتقنين الأيديولوجي فحسب، بل وفي تركيز تلك التعليمات على ما يختلف به الآخرون عنها، وما يلزمهم أن يعملوا ليبقى التفرد في ما يقدمون من تعليمات قائماً. كما يحرص المخططون لها على التركيز الشديد على الأشياء السلبية في الأيديولوجيات الأخرى أيضاً، أو التنفير من الوقوف بحياد إزاء أصناف الحياة المختلفة؛ فأغلب ما يقدم يعتمد على إبراز الإيجابيات في الأيديولوجيا الذاتية، وتضخيم السلبيات فيما سواها من أطر، أو حتى نفي أن تكون طرقاً سالكة لحياة البشر. فليست هناك مساحات اختيار بين مناهج وتطبيقات يصلح بعضها في ظروف محددة، وآخر يناسب في حالات غيرها؛ بل بين استعراض سبل النجاة، وطرق الخيارات الإنسانية، وفيما عداها سبل الهلاك، وخيار لا يوصل إلا إلى الدمار. أما وسائلها في ذلك، فهي إخفاء ما يتعارض مع تلك البيانات التي تعتمدها الدعاية الأيديولوجية، وعدم التعرض إلى النماذج البشرية المختلفة؛ سواء في الحقب التاريخية السابقة، أو في الثقافات الأخرى، إلا باقتضاب من أجل القدح فيما لا يتلاءم مع ما تدعو إليه تلك الأيديولوجيا. وأخيراً محاولة احتكار صغار السن من أجل ضمهم إليها والسعي إلى تدجين الأجيال قبل ازدياد وعيها. فهل ما زال العصر الحاضر يسمح بتمدد الأيديولوجيا، وتعاليها فوق العولمة وثورة الاتصالات بين الثقافات البشرية؟!
- الرياض