Culture Magazine Thursday  14/02/2013 G Issue 396
الملف
الخميس 4 ,ربيع الثاني 1434   العدد  396
 
المتنوع المختفي
د. عبد الله الوشمي

 

هناك كثيرون يُمثل الإعلام عندهم هاجساً يتحركون من خلال موجهاته ومؤشراته، وتأتي أفعالهم استجابة مباشرة لمعطياته، ولذلك ينتجون رصيداً خفيفاً متوهجا إبَّان ولادته، ولكنه لا يلبث أن يذوب وأن يتلاشى بسبب الإعلام وغيره، ويظلون ظاهرة صوتية تخفت كل حين.

وهناك من لا يلتفتون إلى الإعلام ولا يأبهون به، وحين يحضر إليهم، لأي سبب، فإنهم يتجاهلونه إلا حين لا يملكون فراراً منه، وهؤلاء ينتجون - غالباً أعمالاً رصينة تكون مثل المسك كلما هززته فاح طيباً، وترتفع قيمتها بزيادة الزمان ومرور الوقت.

ولئن حقق الصنف الأول أهدافه وطموحاته، وجاءت نتائجهم وفق ما تهبُّ به رياحهم، فإنه قد فاتهم أو غاب عنهم أن ما يبقى هو العلم الأصيل، أو الجهد الإداري المتميز، وأما الصفقات الإعلامية، أو الرياح المفاجئة، فإنها تنتهي كما بدأت.

وأما الصنف الثاني، فإنهم حققوا ولعاً علمياً يعصف بقلوبهم وعقولهم، ولئن آمنَّا بأن للعلم رجاله وأن الكلمة المميزة تجد صداها ولو بعد حين، فإنه فاتهم أنّ الإعلام يملك ما يُغري الناس بأعمالهم، ويمنحها سرعة الرواج والتداول، ويحقق لها الثبات بالمناقشة والمسائل.

وهنا أنفذ إلى موضوعي في مقالتي المختصرة هذه، حيث إنه لصيق بالصنف الثاني دون شك، وهو أ.د عبدالعزيز الفيصل، وقد أحببت أن أصفه بالمتنوع المختفي في رأس مقالتي، وذلك حيث تتجلى فيه صفة التنوع بشكل مميز، وتتجلى فيه صفة الاختفاء بشكل أعلى.

أما التنوع فعلمي وعملي، فهو باحث كبير، ومؤلف جاد، وممن وفقه الله ليحمل صفة الأستاذية لجيل من طلابه، إضافة إلى مساهماته الإعلامية، وممارسته لكتابة الشعر، وأما الشأن الإداري فهو أستاذ في مدارس التعليم العام، ومرَّ بعدد من التكوينات الجغرافية في بلادنا، كالمدينة والقصيم والرياض وغيرها، وهو إلى ذلك عضو هيئة تدريس في الجامعة، وعميد للدراسات العليا، وقبل ذلك تلميذ في المعاهد العلمية، وطالب دراسات عليا في الأزهر.

وأما صفة المختفي، فهي أن كثيرين استفادوا من علمه وكتبه، وهم لم يروه، وربما ساكنوه المدينة نفسها، وأتذكر مقالاً لافتاً للأستاذ الدكتور عبدالعزيز الغزي يشيد بالدكتور الفيصل، ويقول ربما لا أتعرف عليه لو رأيته إلا من خلال تذكّر الصورة!، وهذا يُثبت ما ذكرته في البداية من أنّ أهل العلم والمعرفة باقون وحاضرون من خلال علمهم، ومهما تجاوزهم الإعلام لأي انشغالات، فإن العاقبة لهم دائما.

ويمكن الإشارة إلى أبرز ما يشدني -وغيري كما أعتقد- في شخصية أ.د عبدالعزيز الفيصل، وهما جانبان؛ خلقي وعلمي.

أما الخلقي، فهو ما يتواطأ كثيرون على الإشادة به، ويتمثل في العزلة العلمية، والإخلاص في البحث، والنبل في التعامل، واللطف والهدوء والرزانة، وهي سمات يعرفها من اقترب منه، أو هاتفه، أو سمعه، بل إني أزعم أنها تنضح في كتاباته أيضا، من حيث الأسلوب في النقاش والحوار ومساءلة الآراء.

وأما العلمي، فهو أنه صاحب مشروع علمي لا ينقطع عنه، حيث قام منذ رسالته للماجستير بالبحث في جمع ودراسة شعر القبائل العربية، واستمر على هذا المشروع، فألَّف وكتب وبحث، ورعى ما أنتجه طلابه في هذا السياق، وإن كان لم ينقطع عن غيره من الكتابات.

وإذا كنت أستذكر من مؤلفاته: شعراء بني قشير في الجاهلية والإسلام، وشعر بني عقيل في الجاهلية والإسلام، وشعر بني عبس في الجاهلية والإسلام، فإن له مساهمات جادة في التعمق في شعر العرب القدماء، وخاصة المعلقات، ومؤلفه المميز في شرح المعلقات يتجاوز شرحها إلى وضع رؤيته في التعامل مع أدبنا العربي القديم، وانتماء العربي إلى أرض أجداده، ولذلك يجد من الواجب عليه ألا يكتفي بالقلم والكتاب والقصيدة، وإنما ينزل بقدميه إلى الميدان، ويقايس المسموعات والمقروءات بالمرئيات؛ بل إنه يصرح أمام بعض الأبيات أنها تحتاج إلى ذاكرة نجدية لمعرفة حقيقتها حيث تحفل بالإشارة إلى الطقس أو الجغرافيا الخاصة بالمكان دون غيره.

ويتذكر كثيرون من أصدقائه وطلابه حديثه عن رحلاته ومشاركاته المباشرة، وما زلت أتذكر حين دعوناه في النادي الأدبي بالرياض ليلقي ورقة علمية عن الصلة بين الآثار والأدب حين انطلق ليطرح مشروعا علميا أدبياً مميزاً يشمل تنفيذ رحلات علمية لكوكبة من المتخصصين من الجهتين، وتشمل زيارة أغلب المواقع الجغرافية في نجد من خلال ذاكرة مميزة وخط سير لافت يكفل للجميع الاطلاع على الخارطة العربية وتحرك القبائل ومنازلهم وأشعارهم، وقد وضع في سبيل ذلك خارطة سياحية علمية أتطلع إلى أن تقوم الجهات المعنية بالاستفادة منها، وخاصة في مجال تنشيط السياحة الثقافية، وإعادة دورها في المجتمع.

الأمين العام لمركز الملك عبد الله العالمي لخدمة اللغة العربية

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة