ترجمة: د. حمد العيسى
تقديم: كنت قد نشرت في هذه الصفحة بحث موجز بعنوان انقراض الكتاب الورقي على حلقتين (8 و15 مارس 2012) وذلك بعد إعلان إفلاس مكتبة «بوردرز» الأمريكية التي تعتبر ثاني أهم وأكبر مكتبة أمريكية تبيع الكتاب الورقي وذلك بعد إفلاس مكتبة «بارنز آند نوبل» قبلها بعام. وبعد نشر الحلقة الثانية قرأت في بعض المطبوعات التي تهتم بمستقبل عالم النشر خبرين مؤسفين دقا مسمارين جديدين في تابوت الكتاب الورقي وجعلاني أكتب هذه الحلقة الثالثة من البحث. الخبر الأول كان عن تدشين مكتبة أمازون دوت كوم حملة إعلانية ترويجية ضخمة عن منتجها القديم/ الجديد وهو الكتاب الصوتي الرقمي (الإلكتروني) عبر شركتها الفرعية الأحدث «أوديبل دوت كوم». والخبر الثاني هو قرار الشركة التي تصدر الموسوعة البريطانية (بريتانيكا) إيقاف النسخة الورقية والاكتفاء بالنسخة الرقمية عبر موقع الموسوعة على النت.
أوديبل دوت كوم
دشنت «مكتبة أمازون دوت كوم» في الأسابيع الأخيرة حملة إعلانية ترويجية ضخمة لمنتجات شركتها الفرعية الأحدث «أوديبل دوت كوم». وشركة «أوديبل دوت كوم» هي مزود إنترنت لوسائل الترفيه السمعية المنطوقة، والمعلومات والبرامج التربوية. شركة «أوديبل دوت كوم» تبيع كتب صوتية وبرامج إذاعية وتلفزيونية، وإصدارات منطوقة للمجلات والصحف. اشترت مكتبة أمازون دوت كوم شركة أوديبل دوت كوم عام 2008 بمبلغ 300 مليون دولار أمريكي. وتتمتع شركة أوديبل دوت كوم حاليا بشبه احتكار في سوق التحميل الرقمي لمنتجاتها. الكتب الصوتية (المنطوقة) ليست فكرة جديدة ولكن الجديد هنا شيئين. أولا، التوسع الهائل في الخدمة لتشمل صحف ومجلات. وثانيا، بالنسبة للكتب، هناك تعاقد مع أبرز نجوم هوليوود المحبوبين لقراءة بعض الكتب الرائجة (البست سيلر) حيث أشارت الحملة الدعائية لقراءة نجوم كبار لكتب بست سيلر هامة مثل النجم الأسمر الشهير صامويل جاكسون والنجمة المخضرمة المحبوبة سوزان سوراندن والنجمة الشابة الجميلة آن هاثاوي والممثل المخضرم داستين هوفمان والنجمة المرموقة كيت وينسلت، وغيرهم. وهذا الأمر يجذب القراء المحتملين للكتب الورقية نحو هذه الكتب الرقمية المنطوقة التي يمكن سماعها (وليس قراءتها) عبر أجهزة الهاتف الذكية بسهولة أثناء سياقة السيارة أو التسوق أو التمرين في النادي أو الاسترخاء أمام الشاطئ. وأشارت الحملة الدعائية إلى أن هناك قراءات خاصة مبتكرة قادمة لكتب الأطفال ستكون ذات جاذبية هائلة للصغار. وكان الشعار الرسمي للحملة هو «استمع لبست سيلر في أي وقت وفي أي مكان». ولتسهيل جذب الجمهور، تم وضع خطط شهرية وسنوية مغرية للاشتراك والعضوية في برامج «أوديبل دوت كوم» حيث تبلغ قيمة الاشتراك الشهري الأولي 14.5 دولار وتسمح للمشترك بمزايا التحميل الرقمي لكتب وصحف ومجلات محددة.
(2) الموسوعة البريطانية
الموسوعة البريطانية أو المشهورة اختصارا ب «البريتانيكا» هي موسوعة عامة باللغة الإنكليزية تصدرها شركة الموسوعة البريطانية المحدودة في الولايات المتحدة. مداخل الموسوعة يحررها 100 محرر بدوام كامل، ويكتبها أكثر من 4400 مساهم مختص. وتعد البريتانيكا من أشهر وأدق الموسوعات وأكثرها سعة وإطلاعا. كما أنها من أقدم الموسوعات المطبوعة باللغة الإنكليزية والتي ما تزال تصدر ورقيا منذ عام 1768 حتى عام 2010 كما سنشرح لاحقا.
وفي عام 1996، اشترى يعقوب صفرا الموسوعة من مؤسسة بنتون بقيمة أقل من القيمة المقدرة لها وذلك لصعوبات مالية واجهتها المؤسسة. وفي عام 1999، انقسمت شركة الموسوعة البريطانية المحدودة إلى قسمين: قسم بنفس الاسم يهتم بتطوير النسخة المطبوعة، وقسم سمي شركة بريتانيكا دوت كوم المحدودة ويهتم بتطوير النسخة الإلكترونية. ومنذ 2001 أصبحت الشركتين تداران من قبل رئيس مجلس إدارة واحد هو إيلان يوشوا، والذي استمر في إتباع إستراتيجية تطوير الشركة بتقديم منتجات جديدة كموسوعة مصغرة وكتب مدرسية للأطفال تحت الاسم التجاري بريتانيكا. وقد أعلنت شركة الموسوعة البريطانية المحدودة مؤخرا في بيان رسمي أن تلك الكتب المرجعية ذات الحروف الذهبية على الغلاف والتي كانت تباع من الباب الى الباب عن طريق أسطول من الباعة المتجولين وتعرض بفخر على رفوف الكتب في المنازل الأميركية سوف تتوقف عن الصدور الورقي. ويأتي هذا القرار كنوع من الاعتراف المر بواقع العصر الرقمي وأيضا المنافسة القوية من الموسوعة الحرة على النت (ويكيبيديا) - ليجعل شركة الموسوعة البريطانية تركز بالدرجة الأولى على نسختها الرقمية على الانترنت. الطبعة الورقية الأخيرة للموسوعة البريطانية صدرت عام 2010 وكانت تتكون من 32 مجلدا فخما، ووزنها 129 رطل (58.5 كغم). وقال رئيس شركة إنسكلوبيديا بريتانيكا خورخي كوز «بعض الناس سوف تشعر بالحزن حيال ذلك، والحنين إلى الماضي حول هذا الموضوع. ولكن الحقيقة هي أن لدينا أداة أفضل الآن حيث يتم تحديثها باستمرار في موقعها على النت كما أنه أكثر توسعا بكثير ويحتوي على وسائط إعلامية متعددة». وفي أمريكا الخمسينيات، كان وجود إنسكلوبيديا بريتانيكا على رف الكتب أشبه بوجود سيارة ستيشن واغن في المرآب، أو تلفزيون زينيث بالأسود والأبيض في الصالة، وهي مقتنيات مفيدة كانت تعبر عن الطبقة الوسطى الطموحة. شراء مجموعة إنسكلوبيديا بريتانيكا كان مكلفا ما جعل العديد من العائلات تدفع ثمنها على أقساط شهرية. ولكن في السنوات الأخيرة، تراجعت الحاجة للكتب والمراجع المطبوعة بالكامل تقريبا لصالح الإنترنت ومصادره الواسعة، بما في ذلك مواقع الويب المتخصصة وموقع ويكيبيديا الذي صار يتمتع بشعبية جارفة كموسوعة مجانية. كما أن ويكيبيديا متوافقة مع طبيعة القران 21 من حيث تقديم مواد يتم تحديثها بصورة مستمرة. هناك تقريبا 4 مليون مقال باللغة الإنكليزية، بما فيها مداخل حديثة عن ثقافة البوب - مثلا - التي لا تعتبر ملائمة للنشر في مرجع كلاسيكي كالموسوعة البريطانية.
وأشار السيد كوز إلى أن ميزة إنسكلوبيديا بريتانيكا التنافسية مع ويكيبيديا تأتي من مصادرها المرموقة ومداخلها الموثوقة والمحررة بعناية والثقة الشعبية التي حازتها علامتها التجارية. وأضاف السيد كوز إلى أن بريتانيكا ستكون أصغر لأننا لا نستطيع التعامل مع كل شخصية للرسوم المتحركة واحد، ولا نستطيع التعامل مع كل قصة حب للمشاهير. ولكن نحن بحاجة إلى بديل حيث تكون الحقائق هي ما يهم حقا. إنسكلوبيديا بريتانيكا لن تكون قادرة على أن تواصل بنفس الحجم ولكنها ستكون دائما صحيحة وموثوقة معلوماتيا مقارنة بوكيبيديا مثلا. ولكن يا ترى: هل هذا الزعم صحيح ودقيق؟! ففي دراسة نشرت في عام 2005 في مجلة نيتشر العلمية المرموقة شككت في مدى الدقة المفترضة في الموسوعة البريطانية بالمقارنة مع ويكيبيديا. وأكدت الدراسة إن من بين 42 مدخلا للموسوعتين، فإن ويكيبيديا كان فيها متوسط 4 أخطاء لكل مدخل مقابل 3 أخطاء للموسوعة البريطانية. وردت بريتانيكا بتفنيد يؤكد بأن أسلوب الدراسة يحتوي على خطأ منهجي كامن ولذلك لا مصداقية لنتائجها. لقد أصبحت بريتانيكا التي تعتبر أقدم موسوعة نشرت بشكل مستمر في اللغة الإنكليزية، من علامات الترف بسعرها البالغ 1,395 دولار. يتم شراؤها غالبا بشكل متكرر من قبل المكتبات والسفارات والمؤسسات البحثية، والأفراد رفيعي التعليم من الطبقة الوسطى العليا الذين يشعرون بشهوة لتلك المجلدات الفخمة والباذخة. ولكن لتوضيح أزمة بريتانيكا ينبغي أن نعلم أنه تم بيع فقط 8000 نسخة من الطبعة الأخيرة (التي صدرت عام 2010) والنسخ الباقية وعددها 4000 تم تخزينها في المستودع حتى تجد من يشتريها وينقذها من التلف. لقد شارك في هذه الطبعة (عام 2010) أكثر من 4000 كاتب. مبيعات بريتانيكا بلغت ذروتها في عام 1990 عندما تم بيع 120,000 (120 ألف) نسخة في الولايات المتحدة لوحدها. ولكن بيع الموسوعة الورقية يشكل الآن أقل من 1 في المئة من دخل شركة التي تصدر بريتانيكا. وبحسب الشركة التي تنتج الموسوعة البريطانية فإن حوالي 85 في المئة من عائدات الشركة تأتي من بيع كتب لشرح المناهج الدراسية مثل الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية، و15 في المئة من دخلها يأتي من اشتراكات الموسوعة البريطانية على النت. حوالي نصف مليون عائلة تدفع رسم 70 دولار كاشتراك سنوي لاستعمال الموسوعة البريطانية عبر الإنترنت. وقال غاري ماركيونيني، عميد كلية الإعلام وعلوم المكتبات في جامعة ولاية نورث كارولينا في تشابل هيل، إن تلاشي الموسوعات الورقية المطبوعة يعتبر «اتجاها حتميا من المتوقع أن يستمر»، وأضاف «هناك المزيد وباستمرار مواد شاملة ومتكاملة على الإنترنت، والمعلومة التي تحصل عليها من موسوعة ورقية هي منتج لأفضل العلماء في العالم، ولكنها - بالرغم من ذلك - لا تمثل سوى فقط وجهة نظر واحدة فقط، بينما يستحق كل ما نناقشه في الحياة الحصول على أكثر من جهة نظر وحيدة»
وتقول سونيا دورني، أمين مكتبة بورتلاند العامة في ولاية ماين: لا يزال هناك العديد من الموسوعات الورقية التي تطلبها سنويا خاصة الموسوعات العامة التي لا يزال هناك طلاب يحتاجون لها كثيرا خاصة أولئك الطلاب الذين يصر أساتذتهم أن يستشهدوا بمصادر مطبوعة في بعض الأحيان، فقط للتعود على استخدام المراجع الورقية (قبل انقراضها). وتضيف دورني: «ماتزال الموسوعات الورقية تستعمل من قبل أي شخص يتعلم، خاصة الوافدين الجدد للبلاد، ورواد المكتبات العامة من المسنين، وكل من لا يرتاح مع استخدام الانترنت»، وتؤكد السيدة دورني: «هناك فئة معروفة ومحددة من الناس الذين لا يرتاحون إلا بقراءة المراجع والكتب الورقية «.
ولكن العديد من الناس بدأوا يكتشفون أن الكتب الورقية تخطت بالفعل مرحلة صلاحيتها. فالعديد من الموسوعات الورقية أصبحت معروضة للبيع على نطاق واسع على مواقع بيع المواد المستعملة عبر النت مثل «غريغز لست» Craigslist و»إي باي» eBay: حيث كتب مراقب إنه رصد أكثر من 1,400 نسخة مستعملة من الموسوعة البريطانية الورقية معروضة للبيع على موقع «إي باي» خلال أسبوع.
ويقول البروفيسور تشارلز فولر، وهو أستاذ جغرافيا يعيش في ضواحي شيكاغو، إنه عرض نسخته من الموسوعة البريطانية الورقية (طبعة 1992) للبيع على موقع «كريغز لست». وقال في مقابلة إنه فعل ذلك بعد أن لاحظ عدم استخدامه لها في السنوات الأخيرة حيث صار يفضل استخدام آي فون للبحث والعثور على المعلومات بسرعة فائقة. وأضاف أنه بدأ مع زوجته في تقليص حجم منزلها والتخلص من الكراكيب قبل أن ينتقلا إلى ولاية كاليفورنيا حيث الإيجارات المرتفعة وبالتأكيد لن ينقلا الموسوعة البريطانية بمجلداتها الـ 32 معهم، وهي خسارة يأسى لها. وأضاف فولر: «ولكنها - بالرغم من ذلك - ليست عديمة الفائدة تماما، فعندما أقوم ببحث جاد، أرجع للموسوعة البريطانية الورقية، وهي تبدو جميلة حقا على أرفف الكتب».
Hamad.aleisa@gmail.com
المغرب