أما بالنسبة للإذاعة، التي كانت قد تأسست أواخر الأربعينات الميلادية (أي قبل تعيينه مديراً عاماً للإذاعة والصحافة والنشر بنحو ست سنوات)، فقد ظلّت في عهده محدودة الانتشار، تقتصر تغطيتها على منطقة مكة المكرمة، وقد عادت برغبته من مكة المكرمة إلى حيث كانت توجد من قبل في جدة عند بدايتها.
وفي عام 1382هـ - 1962م استُحدث برنامج صوت الإسلام (نداء الإسلام حاليّاً) بكلمة من الملك سعود، وبدأت الإذاعة السعودية تدريجيّاً تنويع برنامجها العام، وكان من أبرز ما أُنجز في تلك الحقبة تركيب مرسلة إذاعية بقوة عشرة كيلووات في جدة عام 1376هـ - 1956م، ثم مرسلة أخرى بقوة أربعين كيلو وات (أطلق عليها اسم مشروع الإذاعة الكبرى) في جدة أيضاً 1377هـ - 1957م كان المفترض فيها أن تغطي أنحاء المملكة، وكانت الصحافة في ذلك الحين تتندر لأن معدّات المرسلة المخصصة للرياض قد صدِئت في صناديقها، وعندما نفد صبر الحكومة كُلفت وزارة المالية بجلب مرسلة جديدة خاصة للرياض شحنت جوّاً من أمريكا، وافتتحها الأمير فيصل عام 1963م (في عهد الملك سعود)، وكانت في البداية تعيد بث برامج الإذاعة من جدة، ثم صارت تبث برامج إذاعة الرياض بعد افتتاحها بداية شهر رمضان المبارك 1384هـ - ????م في عهد الملك فيصل، وكانت وزارة الإعلام بعد إحداثها وضعت افتتاح إذاعة في العاصمة في مقدمة اهتماماتها، وفي تقديري أن تأخّر المديرية في خدمة مناطق المملكة إذاعيّاً، كان يُعدّ من أبرز المآخذ على عهد عبدالله بلخير.
ومن الطريف ذكره في هذا الصدد، أن مدينة الرياض قد شهدت في أواخر عهده (مطلع الستينات الميلادية) ظهور إذاعة خاصة اشتهرت بإذاعة طامي، ومع أنها كانت بدائية إلا أنها أحرجت المسؤولين، لأنها جذبت اهتمام المستمعين لتوقهم لأي بث إذاعي محلّي، وقد استمر بثّها قرابة عامين حتى بدأت مرسلة التقوية السابقة الذكر.
كما تجدر الإشارة إلى أن الإذاعة السعودية كانت استحدثت استوديو للمونتاج في مكتب بلخير في شارع الخزان في الرياض، يستخدمه المكلّفون بتغطية أخبار الحكومة وتنقّلات الملك.
وكانت مجلة الإعلام والاتصال (في عددها الأول الذي صدر في شهر أكتوبر 1998م أي قبل وفاته بنحو ثلاث سنوات) أجرت لقاءً معه، وكانت صعوبة التذكُّر وضبط التواريخ باديتين على حالته، فأشار إلى أنه حاول في عهده إنشاء معهد للموسيقى لكنه جوبه برفض أرباب المهنة قبل غيرهم، وذلك لعدم اقتناعهم بفكرة تطوير الألحان التراثية التي اعتادوا عليها.
وعندما ألحّت عليه المجلة أن يتطرّق في الحوار إلى قصة نشأة الإذاعة، خلطت ذاكرته الضعيفة، رحمه الله، بين فترتها المبكرة التي لم يشارك هو فيها والفترة اللاحقة التي رافقت عهده، وبدا الخلط واضحاً عنده في رواية تسلسل إنشاء المرسلات الإذاعية، وفي إغفال المرحلة الأولى التي كانت فيها الإذاعة في جدة ودامت نحو عامين قبل أن تنتقل إلى مكة المكرمة ويفتتحها الأمير فيصل، وكنت تناولت هذا الموضوع في مقال نشرته في جريدة الجزيرة (العدد 9529 في 31 أكتوبر 1998م).
وما دام الحديث عن مسيرته الإعلامية، فلا بدّ من ذكر موقف يتعلّق بصحيفة اليمامة، أول صحيفة صدرت في الرياض في آخر عام من حياة الملك عبدالعزيز، وظلّ صاحبها (حمد الجاسر) يستعيد هذا الموقف في مذكّراته، وهو اتّهامه لعبدالله بلخير بالقفز على اختيار اسم (الرياض) لصالح المجلة المصوّرة التي كان أحمد عبيد يعتزم إصدارها من جدة في العام اللاحق 1954م، وكان الجاسر قد سبق في الحصول على الترخيص بهذا الاسم لمطبوعته هو، فاضطر لتغيير ترويسة عددها الأول من (الرياض) إلى (اليمامة) بعد أن كان طبعه خارج المملكة، وقد تدخّل فيها بلخير من خلال موقعه في الديوان الملكي، وبقيت غُصّة في خاطر الجاسر تلقي بظلالها على العلاقة اللاحقة بينهما بعد صدور الصحيفة، حيث ذكر الجاسر أن المديرية تسببت في مواقف عدّة في مضايقته في التحرير لدرجة أدّت، في نهاية المطاف، إلى سحب ترخيص الجريدة منه، وفي مرحلة لاحقة اضطر الجاسر إلى الهجرة إلى لبنان حتى منتصف الستينات، في قصة طويلة سردها الجاسر في كتاب من سوانح الذكريات الصادر عام 2006م، ولا أتذكر أن بلخير تطرّق إليها - توضيحاً أو دفاعاً - فيما صدر عنه فيما بعد من ذكريات أو مقابلات.
ومن المناسب أن يُذكر هنا أن فكرة كانت قد قُدّمت ولم يؤخذ بها في تلك الحقبة من أجل إدخال التلفزيون، تقدمت بها أرامكو من خلال وزارة المالية، عندما كان الأمير طلال بن عبدالعزيز وزيراً لها، وهناك فكرة أخرى مماثلة طرحت لاستخدام التلفزيون ذي الدوائر المغلقة لتعليم النساء، ويغلب على الظن أنه لم يكن لبلخير دورٌ في طرح تلك الأفكار، خاصة وأنها لم ترد فيما اطلعت عليه من وثائق أو في ذكرياته، ولعل الكشف في يوم من الأيام عن وثائق الديوان الملكي، والشعبة السياسية بخاصة، ينيط الّلثام عن المزيد من تلك المعلومات.
كما تجدر الإشارة إلى معلومة حدثت في تلك الأعوام التي كان فيها بلخير في أوج نشاطه السياسي والإعلامي، وهي قيام بعثة التدريب الأمريكية في قاعدة الظهران عام 1955م ببثّ برامج إذاعية وتلفزيونية بالإنجليزية لأفرادها وللقاطنين في المنطقة الشرقية، وكذلك افتتاح تلفزيون أرامكو باللغة العربية مع برامج إذاعية عام 1957م في المنطقة أيضاً، لكنني لم أجد أي قرينة تدل على دور لعبدالله بلخير في بدء هذا النشاط الإعلامي المتنوّع التابع لتلك الجهتين.
من هنا يمكن القول بوجه عام، إن أداء الإعلام في عهد بلخير -باستثناء الصحافة- يتواضع مقارنة بالحظوة البالغة التي كان يتمتّع بها من قبَل الملك سعود، وبرغبة الملك المعروفة في التحديث والاستعداد للإنفاق، وربما كان لانشغال بلخير بالسياسة وانغماسه في الأحداث الداخلية، ولبُعد مركز المديرية عنه في جدة، دور فيما عددتُه إنجازاً إعلامياً محدوداً لعهده أمام كفاياته الفكرية.
وقد يقول قائل، كيف يُمتدح أداء الصحافة في تلك الحقبة، مع أن الحكومة أقدمت بمجرد إنشاء وزارة الإعلام على إعادة هيكلتها في صورة مؤسسات أهلية مُنهيةً بذلك ملكية الأفراد، والواقع أن الصحافة كانت في السبعينات الهجرية (الخمسينات الميلادية) تمرّ بمرحلة تجريبية إيجابية وبخاصة فيما يتصل بحرية التعبير، مرحلة ظهر فيها العديد من الكفايات الصحفية والكثير من الصحف الأهلية التي انتشرت في المناطق الرئيسية من البلاد، لكن القليل منها كان يصمد لمواجهة الأعباء المالية وتكاليف الطباعة، ولذلك اختفى بعضها سريعاً، واتجه البعض الآخر نحو الاندماج، وكان لا بد من التفكير في تنظيم مؤسسي يكفل لها البقاء والملاءة المالية وتوسيع دائرة مشاركة النخب، وعلى العموم، لقد آن الأوان للقيام بدراسة نقدية منصفة للمقارنة بين الحقبتين الصحفيتين، ولو أن هناك انطباعاً سائداً يقول إن الجرأة في الطرح كان يتفوّق في صحافة الأفراد عنه في بداية عهد المؤسسات.
ولا يغيب عن الذهن أن عبدالله بلخير الذي بدأ نجمه في الظهور في العقد الأخير من عهد الملك عبدالعزيز في مجال الترجمة واستماع الأنباء ومتابعة ما ينشر ضمن قائمة راصدي الأخبار والمترجمين، ومن خلال الاقتراب تدريجياً من ولي العهد الأمير سعود، قد أصبح - بلا منازع - رجل الإعلام الأول للملك سعود، واقترن عطاؤه بعهده، وكان الناطق باسمه أحياناً، وربما عقد بعض المؤتمرات الصحفية عندما يكون مرافقاً له في رحلاته الخارجية، أما عندما كانت الكفّة الإدارية تميل إلى ولي العهد الأمير فيصل فإنه كان يميل إلى جميل الحجيلان، وذلك بالرغم من تقديره للكفاية الفكرية لعبدالله بلخير، لدرجة أننا نجد أن الأمرين الملكيين الصادرين تباعاً في يوم واحد برقم ؟?? و ??؟ وتاريخ 4-??-????هـ - بإعفاء وزير الدولة المشرف على المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر عبدالله بلخير من منصبه، وبتعيين جميل الحجيلان وزيراً للإعلام وعضواً في مجلس الوزراء - قد صدرا بتوقيع الأمير فيصل نيابة عن الملك سعود عندما كان يتولى سلطات الملك الدستورية في تلك الفترة، وقد جاء ذلك الأمر بعد نحو عام ونصف من تعيين بلخير وزير دولة مشرفاً على المديرية 25-?-????هـ.
رصدت ذكريات بلخير التي نُشرت مجزّأةً في جريدة الشرق الأوسط في الثمانين الميلادية، وطبعها عبدالمقصود خوجه كاملة سنة ???? هجرية ????م، وكان قد أملاها بلخيرعلى د. خالد باطرفي خلال إقامة بلخير في إسبانيا كيف كان، في أثناء دراسته في مكة المكرمة، محاطاً بالمشهد الثقافي المحلي، متفاعلاً مع رموزه وأجوائه الاجتماعية، متابعاً لمن كان يفد إلى الديار المقدسة من قاصدي الحج والعمرة من مثقفي العالم العربي، الذين كانت تعقد لهم لقاءآت التكريم والحوارات وتبادل الكلمات والقصائد.
ثم كان في أثناء دراسته في بيروت أواخر الثلاثينات الميلادية يلتقي بالسياسيين وحملة القلم اللبنانيين، ويحضر منتدياتهم، ويزور صحفهم، وكان من أبرزها صحيفة النهار ورئيس تحريرها جبران ثويني، وأنه كان يستعين بصديقه محمد سعيد عبدالمقصود خوجه، لحثّ أقرانه من أدباء الحجاز على الكتابة في الصحف اللبنانية التي تعرّف على محرريها، وذلك رغبة منه في إخراج المثقف السعودي من انطوائيته ومحلّيته، وتعريف الرأي العام العربي بأدب الجزيرة، وهو ما يدلّل على ولع بلخير بالإعلام والسياسة منذ صغره، وعلى علاقات مبكّرة مع رموز الثقافة العرب في حينه، مما يضيق المجال عن تفصيل أسمائهم.
وأحسب من تصفّح ذكرياته ذات الصفحات السبعمئة الجديرة بالقراءة، أن سنوات دراسته في مدرسة الفلاح في مجتمع مكة المكرمة، ومن ثم بعثته إلى لبنان التي دامت خمس سنوات، كانت الأكثر إثراءً لمداركه وبناء معارفه، وتنمية علاقاته اللاحقة، غير أنها -أي ذكرياته- كانت تخلو تماماً من كل ما له علاقة بالنشأة المبكرة في حضرموت وبأسرته، وهي تخلو بالقدر نفسه مما يتصل بالأيام الصعبة التي مرّ بها الإعلام، أو اجتازها هو في الفترة التي تولّى فيها هذه الحقيبة في تلك المناخات السياسية الداخلية والخارجية بالغة الحساسية، ولدي ما يدعو للظن أن ذلك المفكّر لم يكن ليفوت عليه أن يدوّن تلك الظروف وذكرياته معها، ولعلها تكون من بين أوراقه المغيّبة، مما سيكشف عنه قادم الأيام.
ربما كان، رحمه الله، لو تفرّغ لوظيفته الإعلامية سيبدع أيّما إبداع في ميدان الإعلام وفنونه، تماماً كما برع في مطوّلاته الشعرية، لكن انهماكه في الشأن السياسي الداخلي، وانشغاله الإداري في الديوان الملكي، وانشطار عمله بين الرياض وجدة، أضاع على متلقّي الإعلام من معاصريه ميزة الإفادة من كفاياته الفكرية الخلاقة، وبالرغم مما ظهر للمجتمع المثقف من نبوغه الشعري المبكر في قصائد الفخر والمديح والأناشيد المدرسية قبل دخوله في عالم الإعلام والسياسة، فإن ما تفتّقت عنه قريحته الشعرية بعد التقاعد في نظم الملاحم الأندلسية السبع والإسلامية العربية الثلاث بخاصة، قد طبّق على كل ما سبقها من نبوغات، حتى جاء د. محمود ردّاوي لينصفه عند تحليل إنتاجه الشعري المخطوط في دراسة نقدية أصيلة متكاملة، ويجعل الشاعر في مصاف البحتري وشوقي، ويقارنه الناقد د. عبدالله الغذامي بابن الرومي، وهو ما سيتثبّت منه القارئ بنفسه عندما يقدّر للمجموعة الشعرية الكاملة المخطوطة أن تظهر في ديوان مطبوع بإذن الله.
وأضيف إلى ذلك أن الشهادة ينبغي أن تقال بحق وفاء عبدالمقصود خوجه الذي أسهم في إخراج رئيسه وصديق والده عبدالله بلخير من خلوته، والذي لولاه، لبقيت ملاحمه وذكرياته طيّ الأدراج، فلقد نشرت اثنينية عبدالمقصود خوجه في مجلّدها الرابع خلاصة التكريم الذي أجري وفاءً له في الاثنينية عام 1985م، وأصدرت كذلك في عام 1998م كتاب: عبدالله بلخير يتذكّر، وهو الحوار الموسّع الذي أجراه معه د. خالد باطرفي، ويقع الكتاب في (727) صفحة، وألف د. محمود ردّاوي كتاباً موجزاً عن سيرته الأدبية في 260 صفحة، ظهر في عام 1991م، وهو من منشورات عبدالمقصود خوجه أيضاً.
وبعد: وكما تبين من التعمّق في قراءة سيرته، فقد حرص عبدالله بلخير على الإبقاء على ارتباطاته الأخرى في ديوان الملك سعود إلى جانب عمله الإعلامي، حتى لم يعُد يُعرف الأصل من الفرع، واستهوته حظوة القرب من الحاكم والظهور إلى جانبه، وهي حالة تباينت فيها مواقف المسؤولين الإعلاميين من بعده بين المقاربة والاقتراب، ولعل هوايته تلك، قد جعلته -في تقديري- يدفع الثمن في آخر المطاف مكتوياً بالإعلام، وليته أفصح في ذكرياته عن مكنونات خاطره حيال تلك المسألة المختلف عليها، حتى يُستشهَد برأيه، عندما يقدّر للباحثين أن يحللوا علاقة المسؤول بالحاكم ومدى المسافة بينهما، بمزيد من الموضوعية والشفافية.
ولا بد من القول أخيراً، إن سيرة عبدالله بلخير التي امتدت نحو ثلاثة وعشرين عاماً من العمل السياسي والإعلامي والإداري، وتوشّحت بالملاحم الشعرية البديعة، لم تكتب بعد، وهي جديرة بذلك لأن ما صدر حتى الآن عن ذكرياته وأدبه لا يُعد سيرة، ولا يغطي مسيرته الإعلامية، ولا يكفي مقارنةً بمكانته، وإذا ما قدّر لتلك السيرة أن تكتب، فلا بد من البحث في وثائق الشعبة السياسية ومركز الوثائق والمعلومات في الديوان الملكي، وفي مجلة الإذاعة، وفي دارة الملك عبدالعزيز التي حصلت على مجموعة أوراقه ومكتبته بانتظار الفهرسة والتكشيف، فالغوص فيها قد يضيف الكثير مما لم يرصد أو يكشف عنه إبّان حياته، وقد يُظهر أن هناك مزيداً من المعلومات، توضّح ما عرفناه، أو تزيد أو تنقص عمّا تداولناه، ذلك أن ما كُتب عنه حتى الآن سواءً منه ما نشر في حياته, أو بعد وفاته بما في ذلك هذه المحاضرة، هي معلومات انطباعية عامة لم تنقّب في الوثائق والمحفوظات، ولم تخضع لأسس البحث العلمي.
وفي الختام، يلزم الشكر لمعهد الإدارة العامة ولدارة الملك عبدالعزيز، لما لتلك الجهتين من فضل في إثراء المحاضرة بالوثائق والمعلومات، والامتنان للدكتور خالد باطرفي لمراجعة مسودّتها.
الرياض