هي شاشة السينما التي اتفق على تسميتها الشاشة البيضاء. في حقبة الدكتاتورية في العراق بلغ عدد السينمائيين الذين غادروا العراق ستة وثلاثين سينمائياً ضمن ثلاثة ملايين عراقي اختاروا موقف الهجرة.
إن شاشة السينما إبان الحقبة الدكتاتورية كانت بيضاء ولكن الأفكار التي تُكتب عليها كانت سوداء.
اليوم أصبحت الشاشة ذاتها سوداء، سواء السينمائية منها أو التلفزيونية التي بلغ عدد شاشاتها داخل العراق أكثر من أربعين شاشة فضائية.
وبات من الصعب أن ترسم عليها صورة.
كان المثقفون العراقيون والسينمائيون العراقيون قد رفضوا الدكتاتورية.
أما اليوم فإن الدكتاتوريات السائدة هي التي ترفضهم! وشكّل هذا الرفض اتخذ صيغة التصفية الجسدية.
ووفق الأوضاع العربية السائدة سياسياً وإعلامياً وثقافياً فإن اختفاء مثقف عراقي قتلاً يروح أدراج الريح لانشغال العالم بربيع عربي هنا وخريف عربي هناك.
آخر جريمة بحق المثقف العراقي كانت اغتيال الصحفي هادي المهدي لأنه رفع «لافتة» في ساحة التحرير تندد بالفساد.. وتم اغتياله في منزله وداخل المطبخ وهو يعيش في شقته بعيداً عن عائلته.
وتقول الأنباء أنهم وجدوا ثلاثة فناجين قهوة قيد الإعداد داخل المطبخ ما يعني أن القتلة متوغلون داخل مؤسسات الوطن وأجهزة حماية المواطنين! ذهبت إلى مدينتي البصرة لتصوير فيلم «المغني» وهو فيلم عن فكرة الدكتاتورية وليس عن دكتاتور بذاته.
وكنت أسمع عن شاب تقني سينمائي موهوب في مجال عمله وأنا بحاجة إليه للإضاءة والتوليف، واسمه هاشم مهدي هاشم أحمد وذهبت إلى عنوان سكنه أبحث عنه، والعنوان في منطقة التنومة وهي المنطقة التي تمتد من الضفة الثانية لنهر شط العرب حتى الحدود الإيرانية. عندما ذهبت إلى هناك شاهدت نخيل العراق المحروقة البالغ عددها ثلاثين مليون نخلة! صوّرت لقطات لجذوع النخيل وهي بلا جدائل السعف.
وعندما أردت التوغل للوصول إلى البيوت السكنية قالوا لي إنها ليست مأهولة والأرض مزروعة بالألغام.
اكتفيت بتوثيق رحلتي نحو المكان سينمائياً وعدت دون أن أعثر عليه.
وأضافوا، لقد اختفى لأنه كان مهدداً بالقتل بعد أن عمل تقنياً في مكتب قناة الحرة في البصرة والتي تبث من أمريكا فأصابوا مراسل قناة الحرة مازن الطيار بطلقة نارية أُدخل على إثرها المستشفى.
واختفى هو ولا أحد يعرف عنوانه! الحكاية ليست عن الشاب ذاته، بل عن الثقافة العراقية ورموزها ومستقبلها.
فالوطن بدون ثقافة هو وطن بدون هوية.
السؤال المطروح أمام سلطة التغيير ما بعد الدكتاتورية، إذا كانت فوضى الإعلام تجيز تأسيس ثلاثاً وأربعين قناة فضائية حتى الآن فمن يا ترى يدير تقنية كل هذه الفضائيات ومن يقدم برامجها ومن يذيع منها نشرات الأخبار، إذا كان كل المثقفين مهددين بالموت، كانوا ولا يزالون، فهل ثمة تقنيون بدائل لهؤلاء الذين يتم إرهابهم فيقتلون أو يختفون أو يهربون لكي يحل محلهم تقنيون من مكان ما حتى تسود في العراق ثقافة ثانية ليست عراقية!؟ من هم خاطفو الرسامة رنا ياسين ومن هم قتلة كامل شياع ومن الذي اغتال هادي المهدي ومن هجر هاشم مهدي أحمد وكثيرين مثله لتُضاف أسماؤهم إلى قائمة المهجرين سابقاً أو المقتولين سابقاً!؟ إذا ما نظرنا للشاشة السينمائية والتلفزيونية السائدة اليوم فإننا ندرك معنى إرهاب المثقف العراقي لكي يختار البديل وفق ثلاثة خيارات: الهجرة، الاختفاء القسري، أو القبول بالعمل لإنتاج الشاشة السوداء السائدة الآن في العراق التي صدقاً لا أطيق النظر إليها وأنا أسمع مقدمي البرامج الموشحين بالسواد ينادون في كل برامجهم أن لا تسمعوا الموسيقى، لأن في سماعها يكمن الحرام، دون أن يدركوا بأن أصوات الحياة نفسها هي السيمفونية المتناغمة بأصوات هذا الدنيا التي خلقها الله سبحانه وفيها أصوات الطيور وحفيف أوراق الشجر وصوت الريح وصوت موج البحر وصوت الصمت وصوت الليل وصياح الديك فجراً، وكلها جمل موسيقية متناغمة في موسيقى سيفمونية الحياة.
اتصلت بصديق شهيد الثقافة العراقية هادي مهدي الذي أُغتيل في شقته فقال لي صديقي وصديقه:
لقد خضنا المباراة مرتين وفي المرتين كانت الريح ضدنا!
*سينمائي عراقي مُقيم في هولندا - هولندا
sununu@ziggo.nl