كلمة «تيك أويه take away» التي يطلقونها على الوجبات السريعة، والتي قد تعني «خذ وابتعد» أو «خذ وفك» كما بعاميتنا الجميلة، ألا تصلح أن تكون شعارا لحياتنا الجديدة برمتها حيث لم يعد الوقت يتسع حتى للطعام؟
في الصباح الباكر تلهث الشوارع بشاغليها، من تلاميذ صغار خرجوا عنوة من عذوبة النوم وزج بهم إلى الشارع لإدراك الحصة الأولى، ومن موظفين أغراهم السهر الليلة السابقة قليلا وامتد بهم النوم دقائق فانطلقوا يسابقون الوقت قبل أن تمتد يد إلى دفاتر الحضور لترفعها ويضيع اليوم، سيارات تمزق جلد الشارع بسرعة محمومة، بسبب نادرا وبلا سبب في أغلب الأحيان، لا يردعها إلا حوادث السير... طهو سريع وتنظيف سريع وإصلاح سريع وعلاج سريع ونوم سريع، وأدوات كانت في السابق أدوات معمرة غدت في أشكالها العصرية تستخدم مرة وتلقى إلى القمامة، كل شيء محموم بالعجلة ومحفوف بنفاد الصبر قبل الشروع فيه، ما أن تفتح المدارس والمصالح أبوابها بعد انتهاء اليوم حتى تلفظ فائضا بشريا متدافعا، يندس في سيارات جاهزة، أو يتسرب إلى الشوارع والأزقة، عصر السرعة الذي تمتلئ فيه السماء بالطائرات وتعج الشوارع بالمركبات، تيارات من السرعة تتقاطع شمالا وجنوبا وفي كل الاتجاهات في طبقات تعلو بعضها البعض، وتتدفق المعلومات قصيرة وعاجلة عبر الراديو والتلفاز والنت، فلا حاجة لوجع القراءة وتعب البحث والانتظار..
في البلاد المتقدمة تنتج هذه السرعة مزيدا من العمل وقليلا من الفن، لأن إغراءات العمل وتجويده والابتكار فيه هو ما أدى إلى سرعة تجاري سرعة التطور فضاقت المساحة أمام الفن، وفي بلادنا لا تنتج عملا ولا فنا لأننا نندفع إلى مجاراة أزمنة الآخرين، نستهلك الآلة على عجل ونجدّ في البحث عن صيغتها الجديدة..
غريب أنني كنت أبحث في الأصل الاشتقاقي لكلمة «مدرسة» الإنجليزية، school فوجدت أنها مشتقة من أصل يوناني هو « سخوليا « ومعناها « وقت الفراغ «، فهل يمكن أن يكون الفراغ هو المدرسة والعلم، والانشغال هو العبث؟!
من هذا التأمل يلحظ الدارس لكل الحضارات القديمة أن أعظم منجزاتها في الطب والهندسة والفلك والفن والأدب والعلوم الطبيعية وغيرها كلها قد خرجت من هذا الفراغ المشغول بالتأمل، أو ليس غريبا أن يكون نموذجا مثل سقراط الذي أسموه «أبو الفلاسفة « أميا لا يقرأ ولا يكتب؟ ألهذا السبب أيضا كان فلاسفة اليونان هم أنفسهم علماء الطبيعة، منهم من أحكم نظرياته في الرياضيات مثل فيثاغورس ومنهم من عالج الذرة (دون معمل أو أدوات) ومنهم من برز في الطب أو الفلك أو الكيمياء؟ لم تكن حضارة اليونان حضارة علمية فحسب، بل ربما بالأساس حضارة فن وأدب وفلسفة أفرزت النماذج التي لم تصل إلى قامتها نماذج أخرى.
قديما كان العربي يشعل نيران القهوة إلى جوار خيمته، ويتكئ على جانبه، ويظل طوال الليل يرصد النجوم ويتأمل السماء، وفي الصباح تكون قد تشكلت لديه رؤية فلسفية، أو ولدت قصيدة عصماء، أو لاحت بوادر نظرية في الفلك أو الطبيعة.
من أين جاء امرؤ القيس بصوره المستحيلة هذه: وليل كموج البحر أرخى سدوله، أو ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي.. بصبح وما الاصباح منك بأمثل، تأمل طويل في ليل طويل حتى أصبح الليل موصولا بليل فليل آخر لا يختلف عنه الاصباح. هل كان هذا الشاعر يشغل «وظيفة» رسمية أخرى يقضي في قمعها ثماني ساعات؟ أظن أنه في عصرنا فقط رأينا نموذج الشاعر المدرس أو الموظف في البلدية، والناقد العامل بالسلك الدبلوماسي والفنان التشكيلي العامل بالدفاع الجوي، وكلهم يمارسون الابداع في أوقات الاجازات، اذ ليس لدينا وظيفة رسمية بدرجة شاعر أو ناقد أو قاص أو فنان.. مجتمعنا العصري تقاس درجة تقدمه بحساب معدلات الإنتاج إلى الاستهلاك للفرد الواحد، والإنتاج مقصود به المعطى العملي الذي يقدمه للآخرين والاستهلاك مقصود به نصيبه مما أخرج الآخرون، وما بين الإنتاج والاستهلاك تختنق أي سانحة للفراغ.
بعض بلادنا العربية التجأت إلى فكرة جيدة، مشاريع « التفرغ» التي يتقاضى الروائي الموظف نفس راتبه منها دون أن يختلف إلى العمل، ويتفرغ تماما للانتهاء من مشروعه لكتابة رواية أو مجموعة شعرية، والتفرغ لا يعني الا توفير وقت للفراغ لهذا الكاتب أو ذاك ولكنه ان أفاد شخصا بقي الباقون بجمعهم نهبا لاستهلاك اللهاث اليومي القاتل..
إذن، ما دامت هذه هي طبيعة العصر كيف تكون الخيارات أمامنا: هل نسلم بأن العلوم الانسانية بما فيها من فن وأدب قد انتهت بعصر العلم والتكنولوجيا ونكف عن العويل والصراخ؟ هل ننسحب من العمل إلى التأمل فتهدأ حياتنا تدريجيا إلى أن تصاب بالسكون فالشلل؟ هل نوزع الأيام مناصفة بين العمل والفراغ؟.. ألف خيار وكلها خيارات فاشلة.
إلى أي شيء أدعو اذن؟
لعل ما أدعو اليه أمر بالغ البساطة وبالغ الأهمية في ذات الوقت، فها نحن ربما نتفق ضمنا على أن ثقافة ال « تيك أويه « قد أصبحت شعارا لمفردات حياتنا، ولا بأس لتكن كذلك مع بعض الاستثناءات الصغيرة أشير إلى بعضها في هذا الاستدراك : على ألا يشمل ذلك التعليم بكل مراحله، ولا يطال الابداع بكل مجالاته، لست مطالبا كشاعر أن تنتج قصيدة كل يوم، لا بأس ان خرجت في شهر أو نصف عام بعد أن تكون قد أشبعتها تمحيصا وتأملا، وهناك شاعر كبير (هيوم) أصدر كتابا بالأعمال الشعرية الكاملة فاذا هي ثلاث قصائد، وأنت كناقد لست مطالبا بمقال صحفي كل يوم، ليكن لديك مشروع تخرجه بعد ثلاثة أعوام، فعطاؤك اليومي مبدد ومشروعك للتاريخ.
ودون أن أعدد الأمثلة أظن أن ما أدعو اليه ببساطة، كمشروع ثوري يغير وجه ثقافتنا المعاصرة، هو تخليص المعطى التعليمي والثقافي من جنون العجلة التي طبعت حياتنا في كل مفرداتها من ناحية، وتجميع شذرات متناثرة من فراغ التأمل على امتداد وقت طويل لحساب منتج تتأخر ولادته، أما أن نكون قادرين على هذا أم لا فتلك مسألة أخرى.
الرياض