والأمر ذاته وقع في فلسطين؛ إذ لم يكن الاستيلاء على الأرض كافياً بذاته لخلق (أمّة يهودية) فهي ستكون عرضة للتمزق بفعل قوة التباينات الثقافية الحادّة بين الجماعات المستوطنة؛ ولذا كان لابد من (خلق) لغة مشتركة تعيد صياغة الوجدان الجماعي لبشر يتكلمون لغات شتى. وهكذا، وبموازاة عمل العلماء الألمان لبعث اللغة العبرية وتحويلها إلى لغة موحدّة - وهي في الأساس لهجة منقرضة من لهجات اليمن - جرى اختراع تاريخ سحيق لهذه الجماعات، المتنافرة ثقافياً التي لا ترتبط بأي سردية تاريخية واحدة، وأصبح هؤلاء، فجأة ولمجرد كونهم يدينون باليهودية - وكأنهم يتحدّرون من سلالة بني إسرائيل القديمة. وبكلام آخر، جرى اختراع سلالة واحدة (نوع من قومية، أو عرق ما فوق ثقافي) اسمها بنو إسرائيل، لجماعات متحدّرة من شعوب أوروبية وغربية عموماً لا ترتبط إلا بروابط واهية، وبعضها يمتلك مخزوناً من العداء لأوروبيين آخرين؟ وكان الغرض من اختراع هذا التاريخ القديم، هو تمكين هؤلاء من تخيّل هويتهم الثقافيّة الوهميّة، وأنهم كانوا - ذات يوم بعيد - مواطنين أحراراً في مملكة عظيمة، ثم تبعثروا في طرقات الأقدار واندمجوا في أممٍ غريبة، وأنهم بوحدتهم الجديدة، إنما يستعيدون هذا الماضي المجيد دفعة واحدة. ولكم أن تخيّلوا مثلاً، ما الذي يمكن أن يجمع اليهودي الألماني مع اليهودي الفرنسي، بينما - هما - يملكان تاريخاً من البغضاء والحروب؟ كانت اللغة العبرية هي الأداة الهائلة في إنشاء الإطار المناسب لتأسيس وحدة هذه الجماعات المستوطنة القادمة من أوروبا. ولم يكن ذلك كافياً بطبيعة الحال، فكان لابد من إنشاء سردية موحدّة للوجدان الجماعي، وإعادة روايتها كتاريخ مشترك قديم، يعيد ربط اليهود من كل القوميات بعرق ثقافي جديد ما فوق قومي، اسمه ( بنو إسرائيل) ومن دون أن يعني هذا اسم قبيلة؟
ولقد كانت المفارقة في وجود إسرائيل المعاصرة ولا تزال، تكمن في حقيقة أن ( مواطنيها) المتحدّرين من أمم وقوميات كبيرة، وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف، وقد ارتدّوا فعلياً إلى عصور ما قبل التاريخ، حين لم يجدوا (عرقا) أو أمّة ينتسبون إليها، سوى (قبيلة) عربية بائدة اسمها بنو إسرائيل؟ وهذا أمر لم يحدث في تاريخ البشرية من قبل؟ ثم نجمت عن هذا الاختراع مفارقة مثيرة للحيرة والتساؤل، فقد أصبح تاريخ هؤلاء إسرائيلياً، بعدما كان أوروبياً، لكنه أصبح في الآن ذاته فلسطينياً، لأن تاريخهم الجديد الذي انتسبوا إليه هو تاريخ فلسطين القديمة؟ أي ما اعتبروه أرض ميعادهم. بيد أنه - حتى في هذه الحالة - يصبح تاريخاً مشتركاً مع شعب آخر اسمه الشعب الفلسطيني، وإنْ كانوا يكنّون له العداء ويرغبون في إبادته نهائياً؟ وهكذا أيضاً ومرة أخرى، أصبح التاريخ الجديد لهؤلاء - وقد صاروا يتكلمون لغة واحدة ويتمكنّون من التفاهم في ما بينهم بسهولة أكبر، ويتجاوزون حواجز وإشكاليات لغة التفاهم اليومي - هو نفسه تاريخ فلسطين القديمة ولم يعد تاريخاً إسرائيلياً صافياً؟ ولذا راحوا ينقبّون في أرضها عن كل شيء يخصّهم كجماعة قديمة انبعثت من جديد. وبذلك تلازم وبشكل عضوي، اختراع إسرائيل القديمة مع اختراع فلسطين قديمة. بيد أن فلسطين هذه التي تأسست صورتها في وعينا طبقاً للصور التوراتية عن السبي البابلي ومعارك داود وعبور الأردن وسقوط أريحا، لا وجود لها في التوراة قط، وهي من تلفيق واختراع المؤرخين الغربيين - وعلى خطاهم العرب والمسلمين -. إنه لأمر محزن أن لا تتمكن الأمم من رواية تاريخها بصوتها هي، ولكن المحزن أكثر أن تستمر في الإصغاء إلى التاريخ يروى بصوت الآخر.
هولندا