أما الفضل في نقل (التأويل) من حقل (الاستخدام اللاهوتي) إلى (العلوم الإنسانية) بوصف عام، فيعود إلى Schiller (شيلر ماخر) الذي سعى من خلال ذلك إلى أن يكون (التأويل) منهجاً أو فناً للفهم، وتقوم (تأويليته) على مبدأ أنَّ (النص) وسيطٌ لغويٌّ ينقل فكر (المؤلف) إلى (القارئ)، إشارةً إلى (العلاقة الجدلية) بين (الموضوعي) و(الذاتي) في حركة (النص) في نقل تَجربة (المؤلف)، ولذا يرى النقاد أنَّ (التأويلية) اتَّخذت على يد (شيلر) بُعداً جديداً، هو الاهتمام ب(القارئ)، وجعل تَجربة الحياة موضوعاً مشتركاً بينه وبين (النص)، أو عقد حوارٍ بين تَجربة (القارئ) و(التجربة الموضوعية) (المتخيلة) في الآداب، من خلال (الوسيط المشترك)، وهكذا يتغير مفهومنا للحياة عن طريق معايشتنا ل(تَجربة النص).
وكانت (التأويلية) في التراث الديني والأدبي العربي القديم إجراءً ينبثق من صميم الثقافة الإسلامية وآدابها، إذ إنَّ «للعرب ملاحن في كلامها، وإشارات إلى الأغراض، وتلويحات بالمعاني، حتى لَم يفهمها ويسرع إلى الفطنة بِها مَن تعاطى (تفسير) كلامهم، و(تأويل) خطابِهم، كان ظالِماً نفسه، مُتعدِّياً طوره» كما يقول (الشريف المرتضى)، «ولكلِّ كلامٍ وجهٌ وتأويل» كما يؤكد على ذلك (ابن رشيق القيرواني)، كما كان (للمتكلمين) دورٌ كبيرٌ في وضع (شروط) حازمة تَحكم قاعدة (التأويل) ومفهومه الجديد، وتَحديد وجوه (العلاقة) بين (اللفظ) و(المعنى) في البيان العربي، ومن أهم ما وضعه (المعتزلة) في هذا المجال (المواضعة) و(قصد المتكلم) و(القرينة) أو (الدليل) الذي يسمح بالعبور من معنى إلى آخر عبورا (مشروعا).
وقد استقرَّ حديثاً مصطلح (التأويل) في العربية تقريباً ترجَمةً لِمصطلح Hermeneutic (الهرمنيوطيقا) التي تعني مُحاولة تَجاوز حالة (الاغتراب) وعدم الألفة التي قد تواجهنا في فهم (النصوص)، بِمجاوزة (المسافة الزمنية) التي تفصل بين (المفسر) وما يُراد تفسيره، فعملية (الفهم الهرمنيوطيقي) تتطلَّب في أحد جوانبها فهماً (للأفق التاريخي) الخاص ب(العالَم الأصلي) (للعمل الفني)، ولكنها تفترض في المقام الأول فهم ما يُقال ذاته، بوصفه (خطاباً) معاصراً على الدوام، مُوجَّهاً إلينا باستمرار، من حيث إنَّ ما يقوله (العمل الفني) يبدو كما لو كان يتمتع بِ(حضورٍ مطلق)، ناتج عن (قدرته) على (توصيل ذاته).
وواضحٌ أنَّ (للهرمنيوطيقا) الفلسفية في القرن العشرين اهتماماً بالنصوص يتعدَّى النظر إليها بوصفها آثارا، ف(النص) لا يتحقَّق تَحقُّقاً كاملاً إلاّ في عملية (القراءة) التي يتقابل فيها عالَما (النص) و(القارئ) ويندمِجان، وقد كان للأفكار المركزية ل jadamr (جادامر) ومثلها الكتابات النقدية (للفينومنيولوجي) Roman Ingarden (رومان إنجاردن) أهَمية بارزة بالنسبة إلى (نظرية التلقي)، وخاصَّةً لدى أعضاء مدرسة konstans (كونستانس).
ومن هنا تلتقي (نظرية التلقِّي) مع غاية (التأويل) التي هي حل (إشكالية) الفهم، من خلال (آليات) خاصة، حيث إنَّ (التأويل) يقوم على تدخُّل (الذات) في توجيه (التفسير) وجهةً تَختلف أو تتفق مع الوجهات القائمة أو المحتملة؛ نظراً لتعدُّد هذه (الذات) واختلافها في (الزمان) و(المكان)؛ ولذلك كان (التأويل) في نظر النقاد (تشعيباً) للمعنى في اتِّجاهاتٍ متعدِّدة ومُختلفة، حسب (كفاءة) المؤول (الثقافية) و(معرفته) (النوعية) و(العامة) من جهة، وحسب (ميوله) و(مقاصده) من جهة أخرى، وفي هذا تأكيد على فرضية القول النقدي الدائر في بعض (النظريات الحديثة) المفضية إلى أنَّ (المعنى) حصيلة (تفاعل حيوي) بين (النص) و(القارئ).
إنَّ (قراءة التأويل) عند أصحاب (التلقِّي) ما هي إلا لَحظة حوارٍ بين ذات (القارئ) وذات (المقروء)، بضروبٍ شتَّى من (التوتُّر الفاعل)، نتيجة (التردد) بين (الابتعاد) عن (النص) و(التفاعل) معه، إلى حدِّ (الاندماج) فيه أحياناً كثيرة، و(القراءة التأويلية) أيضاً (معادلة) يتحكَّم فيها طرفان متفاعلان: (موضوعي) يرجع إلى (أفق النص) وينطلق منه في الوقت نفسه، و(انطباعي ذاتي) يعود إلى (أفق القارئ) وينطلق منه في الوقت نفسه، حيث إنَّ مناهج (التأويل) تَميل إلى التأكيد على أنَّ الجملة تعاني (فجوات) و(ثغرات) ينبغي ملؤها، ويلتقي مع هذا (أفق التوقع) عند Jauss (ياوس)، و(القارئ الضمني) الذي يُجسِّد حضور (النص) كبنيةٍ تُطوِّر نفسها داخل (اللغة) عند iser (إيزر).
ويُمكن القول هنا إنَّ انفتاح (التأويل) على سائر (القراءات) و(التيارات النقدية الحديثة) وتعالقه مع (الفلسفة المعاصرة) وبِخاصة (الظاهراتية) يَجعل حركته أكثر (شمولاً) و(عمقاً)، ولعلَّ ذلك هو ما جعله - سواءً مع مؤسسيه أو مع أصحاب (نظرية التلقِّي) - يبحث في سياق (حفرياته) عن (القيم الجمالية) و(الإنسانية) في (النص)، بعد أن غاب الاهتمام بِها في (النقد الإيديولويجي) و(النفسي) من حيث (القيم الجمالية)، و(النقد الشكلاني) من حيث (القيم الإنسانية).
Omar1401@gmail.com
الرياض