انتهيتُ في الحلقة السابقة إلى أنّ هناك عوامل كثيرة مهّدت لاندلاع معركة عنيفة بين الطرفين، وأبرزتُ - في بعض أجزائها - كيف أنّ تلك العوامل هيّأتهما - على مدى سنوات - لدخول المعركة دون تفكير أو تقدير، وربما دون وعي كامل بالتفاصيل.
في هذه الحلقة سأعرض لساعة الصفر، وللقيمة التي يمكن أن نحصِّلها من موادّ هذه المعركة المتشظّية.
تُعدّ أزمةُ الخليج الثانية - في نظر كثير من الراصدين - نقطةَ تحوّل كبير في الخطابات المحلية المتعدّدة، إذ ظهرت - على السطح - خطابات جديدة، لم يكن لها فيما مضى من الظهور ما يعبّر حتى عن حقيقة وجودها، وتغيرت أساليبُ ومضامينُ خطاباتٍ أخرى، وأفضى هذا التحوّل الخطابي الواسع في مساحة زمنية ضيّقة إلى اشتباكٍ بين عديد هذه الخطابات، وبين رموزها أيضاً.
كانت لمشايخ الصحوة مواقفُ رافضةٌ من الاستعانة بالقوّات الأجنبية لتحرير دولة الكويت، وكانت مواقفهم متطابقة من حيث الجملة، وإن اشتملت على تنوّع في تفاصيلها الدقيقة - كما يقرّر الشيخ سفر الحوالي - .
غير أنه لم يكن لمواقفهم أثر ملموس في مجريات القرار السياسي، فقد نزلت القوات الأجنبية بأرض الجبهة، تحيطها فتوى رسمية من هيئة كبار العلماء تجيز هذه الاستعانة، أو تسوّغها، فانتقل الأمر - عند المشايخ - من كونه موقفاً ذهنياً مطروحاً إلى واقع ملموس، له حسابات أخرى، وتعامل خاص...، من هنا علا صوتهم في التعبير عن مواقفهم الرافضة، فألقى الشيخ سفر الحوالي محاضرةً بعنوان: (ففروا إلى الله)، رأى كثير من الراصدين (منهم القصيبي نفسه) أنها تمثّل تغيراً كبيراً في خطاب الصحوة، ويمكن أن نعدّها - تبعاً لذلك - تدشيناً رسمياً للمعركة الفعلية بين الطرفين (القصيبي- مشايخ الصحوة)، وربما بين أطراف أخرى.
رأى الشيخ الحوالي في تلك المحاضرة أنّ الأمة تعيش في ظروف حرجة، وفي أزمة صعبة، وفي فتنة تدع الحليمَ حيران، وقرّر فيها أن على العلماء دوراً مهماً في معالجة هذه الظروف، والتصدي لملابساتها؛ كونهم من {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللهَ}، وأن الواجبَ عليهم أن يعلنوا نصيحتهم، فإن قُبِلت فهي الغاية، وإن رُدّت، فقد رُدّت من قبلها نصائح كثيرة !!
وعرض الشيخ في محاضرته للخطر الكبير الذي بات واقعاً من تواجد القوات على الجبهة، وأشار إلى مظاهر كثيرة لهذا الخطر، ووجه الدعاة، والشباب، إلى الدعوة إلى الله، حتى في أوساط القوّات الأجنبية .
على خطى هذه المحاضرة ألقى الشيخ سلمان العودة محاضرته (أسباب سقوط الدول)، قدم فيها عدداً من الآراء، لم تخرج - في مجملها - عمّا أشار إليه الحوالي في محاضرته .
المحاضرتان السابقتان - بالإضافة إلى محاضرات أخرى سأتجاوزها طلباً للإيجاز - قدمت خطابَ الصحوة في أسلوب جديد، يتأسس على لغة قوية، ويراهنُ على الشارع أكثر من رهانه على العالم أو السياسي، وإن كان الشيخ الحوالي قد ذهب باتجاه تغيير قناعة هيئة كبار العلماء، فسجّل رأيه بالتفصيل في كتاب، سمّاه (كشف الغمة عن علماء الأمة)، وبعث به إلى الشيخ ابن باز - رحمه الله - بعد انتهاء عمليات تحرير الكويت بأشهر معدودة . أثار هذا التحوّل الكبير في خطاب الصحوة الخطاباتِ الأخرى، ومن بينها الخطاب الثقافي، فكتب القصيبي عدداً من المقالات، هاجم فيها مشايخ الصحوة، ووصفهم بالفقهاء السياسيين، الذين فتحوا - على حدّ قوله - باب الفتنة، وبذلوا ما في وسعهم لإحداث البلبلة، ونشر الشروخ الخطيرة في قلب الإجماع (انظر: كتابه حتى لا تكون فتنة)، ثم استمرّ القصيبي ينشر مقالات متتالية في (الشرق الأوسط)، وفي غيرها، فلما نشر مقالته (قضية القضايا..وبقية القضايا)، اجتمع المشايخُ على الردّ عليه (باستثناء الشيخ الحوالي)، فألقى الشيخ عائض القرني خطبةً مدوّيةً بعنوان: (سهام في عين العاصفة)، وبمستوى أهدأ ألقى الشيخ ناصر العمر محاضرة بعنوان: (السكينة..السكينة)، وبمستوى أكثر هدوءا ألقى الشيخ سلمان العودة محاضرةً بعنوان: (الشريط الإسلامي..ماله وما عليه)، تضمنت ردودا متعدّدة، أهمها ردّه على مقالة للقصيبي بعنوان (يوميات كاسيت) .
ردّ القصيبي على كلّ واحد من المشايخ برسالة خاصة، الأولى بعنوان: (يا أخي ناصر العمر اتقِّ الله)، والثانية بعنوان: (يا أخي عائض القرني..الله الله في دماء المسلمين)، والثالثة بعنوان: (يا أخي سلمان العودة، اعذرنا، لا مكانَ لولاية الفقيه عندنا)، وجَمَعَ هذه الرسائلَ مع بعض مقالاته، ونشرها في كتيب بعنوان: (حتى لا تكون فتنة)، طُبِع مرتين، وكان ممنوعاً من التداول محلياً .
هذه إشارة عابرة لأبرز موادّ هذه المعركة، والسؤال المهمّ هنا ما القيمة التي يمكن أن نحصِّلها من هذه الموادّ ؟
1-2مادة مشايخ الصحوة :
بدا واضحا لي من خلال متابعة المادة التي قدمها مشايخ الصحوة في هذه المعركة أنها كانت مادةً حماسيةً، أكثر منها مادةً علميةً، وأنها استندت إلى الظنيّ، أكثر من القطعي أو اليقيني. كان ينشط في تلك الموادّ التخوّفُ من كلِّ شيء، من الواقعة (أزمة الخليج)، وممّا ستؤول إليه، ومن الموقف السياسي، ومن موقف هيئة كبار العلماء، ومن حركة الخطابات الأخرى، وأهمّها - بطبيعة الحال - الخطاب الثقافي.
كان هناك تحذير من مقاصد الآخرين، وتحذير أكبر من مخططات العدوّ الأكبر (في إشارة منهم إلى الغرب، وإلى الأحزاب الموالية له في البلاد الإسلامية)، ومن الأعداء المندسين داخل المسلمين (في إشارة إلى المثقفين الموصوفين عندهم بالعلمانية)؛ فقد كان خطابُ المشايخ يتوجه - من حيث الجملة - إلى التشكيك في مقاصد هذا الخطاب، والتحذير من مخططات رموزه، دون أن يدفع إلى المتلقي بدليل قاطع؛ الأمرَ الذي حدا ببعض المشايخ إلى استعادة مواقف من الماضي لإنقاذ خطابه من نقص الأدلة والحيثيات؛ فأشار أحدهم إلي بيان الشيخ ابن باز - رحمه الله - في القصيبي، رغم المسافة الزمنية الكبيرة التي تفصل بين البيان والانطلاقة الفعلية للمعركة (أكثر من عشر سنوات)، وذهب بعضهم ينقِّب في شعره، بحثاً عما به يقنع المتلقي بفساده، وانحلاله، بل ذهب أحدهم إلى الأبعد الأبعد، فكتب قصيدةً هجا بها القصيبي، وعيره فيها بخروجه من وزارة الصحة، ومال كلّ الميل، فاتهم القصيبي بسرقة ثروات الشعب، إبان عمله وزيراً للصحة، ورتّب على ذلك إعفاءَه من منصبه !!
هي معركة حقيقية إذن، مورس فيها الحدسُ، والتخمينُ، والظنُّ السيئ، والتشويه المطلق، والكذب أيضاً (كما في حالة صاحب القصيدة) !!
تناغم كثير من الناس مع هذا الخطاب، فأصبحوا - من حيث لا يشعرون - صدى له، وصار تشويه القصيبي يسري في الناس سريان النار في الهشيم، ولا أنفي هنا أن في المادة التي طرحها مشايخ الصحوة شيئاً من التفكيك والتحليل، لكن هاتين الأداتين العلميتين ضاعتا في خضمّ الموقف النفسي المسبق، ولم يعد لهما أثر في أجواء مشحونة، تحدّد النتائج مسبقاً، ثم تذهب بعيداً في التدليل عليها، وسأسوق على هذا عدداً من الصور:
الصورة الأولى : أنّ القصيبي دعا في مقالته (قضية القضايا.. وبقية القضايا) إلى الحوار الهادئ والعقلاني، فالتقط الشيخ عائض القرني هذه الدعوة، وعدّها - في خطبته المُشار إليها - ضرباً من ضروب التفاوض على الشريعة، وعقب عليها الشيخ العمر بقوله : « ومن وسائلهم ما يسمّى الحوار، عندهم مبدأ الحوار...، وهذا المبدأ خطير، خطير، خطير...» !!
الصورة الثانية : أن القصيبي دعا في المقالة نفسها إلى الاحتكام إلى الكتاب والسنة (أي إلى المصدر وليس إلى الفهم)، فرفض الشيخ ناصر العمر هذه المطالبة - في محاضرته المشار إليها -، وعدها حيلة من حيل العلمانيين، وهو ما استفزّ القصيبي، ودفعه إلى التساؤل - في ردّه على الشيخ العمر - : «أسرف أخي ناصر العمر على نفسه ... إنه يعتبر مطالبتي بالاحتكام إلى الكتاب والسنة حيلة من حيل العلمانيين. أيها المسلمون، هل سمعتم من قبل بداعية جليل، وأستاذ فاضل، يرى في طلب الاحتكام إلى القرآن والسنة مؤامرة علمانية ؟ « (حتى لا تكون فتنة، ص10) .
الصورة الثالثة: أن القصيبي نفى - في رسالته إلى الشيخ العمر - أنْ يكون علمانياً، وزاد على ذلك أن تبرأ منها، ورغم ذلك لم يُظهر أحدٌ من مشايخ الصحوة فرحَه بهذه الخطوة التقريبية المهمة، بل عدها بعضُهم شكلاً من أشكال التلوّن والخداع . بدا واضحاً من طرح مشايخ الصحوة، أنهم لا يريدون المصالحة مع القصيبي، ولا يريدون إنهاء المعركة معه بغير الانتصار، ولقد سعوا بما أوتوا من قوة إلى المراهنة على الشارع، ونجحوا في ذلك، فقد كان من بين التهديدات التي تلقاها القصيبي في البحرين، تهديد الجماعات الإسلامية؛ الأمر الذي فرض عليه طوقاً أمنياً يرافقه من مكان إلى آخر.
2 -2 مادة القصيبي :
في الضفة الأخرى نشر القصيبي مقالات وقصائد لاحدّ لها، وأهمّ ما أنتجه في هذا السياق كتابه (حتى لاتكون فتنة)، وقد منع هذا الكتاب من التداول محلياً (رغبة من الدولة في تهدئة الطرفين)، لكنه طُبع أكثر من مرة، وكُتِبَ على غلافه الخلفي (مهداة مع تحيات غازي القصيبي)، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ القصيبي قد استخدم أدوات المشايخ في هذه المعركة، فكان يوزّع كتابه مجاناً كما يوزّعون كتبهم، وربما استخدم الشريط الصوتي كما استخدموه أيضاً .
ولستُ مبالغاً لو قلت: إن ما أنجزه القصيبي في هذه المعركة يُعدّ من أسوأ ما أنجزه على الإطلاق؛ لجملة أمور، أهمّها الآتي :
أولاً: أنه أنجزه في ظروف غير صحية، ويمكن أن يكون المنجزَ الوحيد الذي صنعه القصيبي في ظروف لا تساعد على التفكير السليم .
ثانياً: أنه كان ردّ فعل على خطاب مشايخ الصحوة، سواء في ذلك خطابهم عنه، أو عن الحالة السائدة في ذلك الظرف؛ لذلك جاء مثقلا بالارتباك الأسلوبي، وجاء ملوناً ببعض السخرية من خصومه، وهي سخريةٌ - في نظري - أقلّ من مستوى الجمالية التي عُرِفَ بها غازي .
ثالثاً: أنه كان ينطلق - في هذا المنجز - من فهم مسبق لخصومه، جانبَ الموضوعيةَ في بعض تجليّاته، فقد كان يصفهم بالصدّاميين (ولم يكونوا من صدام في شيء، وإنما كانوا من جملة من يكفّره)، وكان ينتقل من حراكهم السياسي إلى رغبتهم في السلطة، مستخدما هنا أحد مبادئ الثورة الإيرانية (ولاية الفقيه).
رابعاً: العزف على وتر السلطة، وتقديم آراء المشايخ كما لو كانت مشروعاً سياسياً، يتغيا إسقاط الدولة، وفي هذا ما فيه من استعداء السلطة على الخصم .
ورغم ذلك كلِّه يمكن القول إن القصيبي كان أكثرَ منهجية من المشايخ في معالجة مفردات المعركة، وتحريرها بالأسئلة الدقيقة والإجابات المركّزة .
بدا واضحاً أنّ المعركة قد خرجت عن كونها معركة فكرية مسوّغة لتصبحَ معركة حقيقية مفتوحة، يُوظِّف فيها الشخصي، والاجتماعي، والسياسي، وهذا ما عبر عنه القصيبي لاحقاً بقوله: «إذا كان سلمان العودة قد استعدى عليّ الشعبَ، فإنني قد استعديتُ عليه السلطة» !
أكثر ما يؤلمني هنا أن أخرجَ من أكبر معركة في مشهدنا الثقافي، دون أن أضع يدي على منجز ذي قيمة، يغسل عنا الحزنَ والتعبَ، ويجلينا للآخر/الراصد في صورة من الوعي الخلاق. يتبع ................
Alrafai16@hotmail.com
الرياض