Culture Magazine Thursday  19/04/2012 G Issue 370
فضاءات
الخميس 27 ,جمادى الاولى 1433   العدد  370
 
الاغتراب الأدبي
عبدالله العودة

 

المشهد الثقافي المرتبك.. حين يعجز عن التعرف على الناس والعيش معهم بعمق.. يلد المثقف الذي يلجأ إلى اعتبار نفسه «شهيد الثقافة» والمخلّص الذي نبذه قومه.. والفيلسوف الذي أنكره الناس.. والمجذوب الذي يهيم في الأرض في حالة من الوجد الروحي الثقافي!

هذا الفشل الثقافي والاجتماعي.. الذي يجد المثقف نفسه إزاءه لم يدفعه إلى حالة من النقد الذاتي ومراجعة المقولات الأدبية ولكن عوضاً عن ذلك جعله يهرب إلى التذرع بأن هذا الخطاب الأدبي «أعمق» من أن يدركه «الناس».. ولذلك ترى كثيراً من الأمثال والأبيات المتنوعة التي تكيل الشتائم للناس ولعدم وفائهم.. إلخ. في ذات الوقت الذي يعد هذا الأديب نفسه من الناس.. ولكنه ربما يحاول أن يكون بتلك الدرجة التي قال فيها سيد الاغترابيين المتنبي في سيف الدولة:

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

المتنبي نفسه يبرر تلك العلاقات السياسية والاجتماعية الفاشلة بنبوغه وعظمته على عادته.. من غير أن ينظر لنفسه وسلوكه.. فهو يقول في بيتين من أكثر الأبيات العربية اغتراباً جذرياً:

أنا ترب الندى ورب القوافي

وسمام العدى وغيظ الحسود

أنا في أمة تداركها الله

«غريب» كصالح في ثمود

مامقامي بأرض نخلة إلا

كمقام المسيح بين اليهود

هذا الإحساس الصلف بالاغتراب عند المتنبي جعله يتحدث عن مقام المسيح بين «اليهود» لا بين «المسيحيين».. فهو يرى هؤلاء الناس على مستوى من قلة العلم وقلة الوفاء.. يقارن بمثل قوم ثمود لصالح..

وفي مناسبةٍ أخرى لايتورع المتنبي عن كيل أقذع الشتائم في كل الناس وكل من يرى فيقول:

أذم إلى هذا الزمان أهيله

فأعلمهم فدمٌ وأحزمهم وغدُ

وأكرمهم كلبٌ، وأبصرهم عمى

وأسهدهم فهدٌ وأشجعهم قردُ

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدواً له مامن صداقته بدُّ

وفي ذات الوقت الذي يقدم فيه المتنبي هذا الحكم التعميمي الجائر على الناس.. والحكم النرجسي الطاغي على نفسه.. هو من أخبرنا أن «كل إناء بالذي فيه ينضح» ولم يحدثنا المتنبي عن أن الأديب قد يغطي فشل نفسه عبر ذم الناس.. ويقدم إحباطاته الشخصية عبر إيساع الناس شتماً وذماً. في دراسة أكاديمية حول الاغتراب عن المعري والبير كامو.. يشير الباحث «عبدالقادر توزان» إلى ظاهرة «الصعاليك» العربية القديمة وكيف أنها كانت حالة اغتراب صارخة حين ينفرد هذا الأديب الشجاع عن قبيلته ويعتزلهم بحثاً عن رزقه الخاص ضارباً بعلاقاته الاجتماعية ومجتمعه الخاص عرض الحائط.. ولذلك كان الشنفرى يقول في لاميته الشهيرة المعروفة بلامية العرب..:

أقيموا بني أمي، صدورَ مَطِيكم فإني، إلى قومٍ سِواكم لأميلُ!

فقد حمت الحاجاتُ، والليلُ مقمرٌ وشُدت، لِطياتٍ، مطايا وأرحُلُ

وفي الأرض مَنْأىً للكريم، عن الأذى وفيها، لمن خاف القِلى، «مُتعزَّلُ»

لَعَمْرُكَ، ما بالأرض ضيقٌ على امرئٍ سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ

ولي، دونكم، أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌ وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ

هم الأهلُ. لا مستودعُ السرِّ ذائعٌ لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ، يُخْذَلُ

فالشنفرى هنا.. يجد له أهلاً بديلاً عن أهله ومجتمعاً خاصاً في الذئب والضبع والحيات.. فقد استوحش من الناس واستأنس من هذه الوحوش.. وهكذا يجد الشنفرى نفسه في أشد حالات الاغتراب حين يرفض كل هذا المجتمع وعاداته وقيمه وأسلوبه في العيش ويبحث لنفسه عن مجتمع صغير جداً من نفسه وتلك الوحوش التي ألفها وصار يطاردها ويرافقها في الفلوات.

وكان شيخ المعرة (أبوالعلاء) رهين المحبسين كما سمي بالفعل.. رهيناً لهذا الاغتراب الأدبي أيضاً.. فهو الذي اعتزل الناس وكرههم.. وقال:

و أرى التوحد في حياتك نعمة

فإن استطعت بلوغه فتوحد

فاغتراب المعري اغتراباً أدبياً ودينياً وفلسفياً.. فهو يرى أن مقولاته وآراءه تسبب الكثير من القلق والاتهام..ولذلك تطوّر عنده هذا الإحساس.. الذي اجتمعت فيه كل تلك العوامل الجسدية والفكرية والشعورية.

وهكذا في كل عصر.. يتجدد هذا الاغتراب الأدبي عبر أدباء ومثقفين يجيدون شتم الناس واعتزالهم ووصمهم بكل الصفات السيئة ليبرروا فيه فشلهم الاجتماعي.. وإخفاقهم الذاتي في التعامل مع هؤلاء الناس وتشكيل الروابط الطبيعية معهم.. وعوضاً عن الاعتراف بالمشكلة ومحاولة علاجها.. يلجأ هذا الأديب والمثقف كل مرة لنفس الحيلة القديمة البالية في سب الناس واتهامهم بقلة الوعي والمعرفة وعدم احترام الأدب والعلم والوعي الذي يحمله..! الأديب والمثقف العربي لايحتاج أن يكون مخلّصاً استثنائياً غريباً كغربة الشنفرى والمعري وألبير كامبو.. فهذا أقرب إلى المرض الاجتماعي والنفسي منه إلى الإبداع والتميز.. والعبقرية.. بل يحتاج الأديب والمثقف أن يعالج فشله الاجتماعي عبر مداواة هذا الاغتراب..وليس تبريره.. وحينها قد يستمع إليه الناس حينما عنهم وإليهم.

أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة