في تلك المرحلة كانت تجذبني - وما زالت - النصوص التي تتحدث عن الحب ومكابدات العشاق، وعثرت على كنز من القصائد لشاعرة مختفية اسمها غيداء المنفى مرة وغجرية الريف مرة وسمراء البدائع مرة، حديثها عن الحب لم يكن تقليدياً ولا يرسم العلاقة بأطر مستهلكة أو مبتذلة
أربكت خطواتي الدهاليز.. والطرق المعتمة
.. قتلتني الممرات
إن المدينة مرهقة
والحصار يعاقر.. نافذتي
والرداء الذي يرتديني.. ثقوب
الجميل في قصائد غيداء ليس شعريتها فحسب، بل الحكاية التي تحملها، والغموض الذي يكتنفها والتكهنات التي وضعت لتفسير وجود الشاعرة من عدمه.. هل هي حقيقية أم مختلقة! كل ذلك صنع من غيداء وقصائدها (حكاية) ظللت أتقصاها وأتتبع خيوط قصائدها عند هذا وذاك وفي أرشيف الصحف، حتى اهتديت لغيداء المنفى وأدركت أنها ليست وهما صنعته مخيلة شاعر ذكر لتمرير قصائده، وليست ظلاً عابراً مات وانتهى.
تلك (الحكاية) الغامضة والقصائد المختلفة شكلت وحياً ملهماً بالنسبة لي كساردة، استقراء تلك القصائد والبحث في ثناياها عن مفتاح، كان يدلني على تمرد يمكنني فهمه، ذلك الصراع الذي تصوره بين عشقها والمدن المفتوحة، تلك النبرة الجدلية التي تملأ فضاء البوح في قصائدها، كان يقرّبني من صورة العشق التي أعجب بها، لم تكن مجرد قصائد لوعة وفراق، بل قصائد تحلّل وتجادل وتقرن بين الرجل والمدينة بين العشق والحضارة، بين ذاتها المشبعة بالقيم والذات الأخرى التي تناوئها بقيم مختلفة.
لم يكن ثمة نموذج نسوي سردي يوازي وجود غيداء المنفى أو فوزية أبو خالد أو خديجة العمري، نموذج أستطيع أن أقول عنه إنه أثر في مخيلتي أو ألهمني! وذلك يدفعني للسؤال: لماذا لم تكن ثمة نصوص سردية حديثة (في فن القصة القصيرة) لنساء في تلك الفترة! لم لمْ يكن للسرد النسوي تلك الأجنحة التي يمتلكها الشعر!
كان هناك تواز بين النص القصصي الرجالي والقصائد الشعرية في التحديث والجدة، بينما غاب النص السردي النسوي، وأنا هنا أُذكر أنني أتحدث عن جيل منتصف وآواخر السبيعنات الميلادية (جيل جار الله الحميد وباخشوين والمشري).
قد يأتي من يذكّرني برجاء عالم!
وأقول رجاء عالم كانت تكتب نصاً بعيداً كل البعد عن القصة القصيرة، ولم تكن - في تجربتي - داخل منطقة التأثير كساردة قاصة، نص رجاء عالم كان ولا يزال نخبوياً، خاصة في مسرحياتها ونصوصها الأولى ماعدا بعض النصوص التي كتبتها مؤخراً.
وأذكر ثانية أنني أحكي عن تجربتي الخاصة لا عن جيلي بأكمله.
أما عني فقد كتبت نصوصاً حديثة بالاعتماد على قراءاتي للسراد الرجال بالإضافة للنصوص الشعرية الحديثة وكلها كانت في تلك الفترة تحطم الأطر وتنزع نزوعاً جميلاً نحو التجريب.
الرياض