كانت الرحلة إلى واحة الأحساء (شرق المملكة العربية السعودية الشقيقة) قد استغرقت يومين بالطائرة، وكانت طويلة وشاقة..
ولكن «لا بد من» الأحساء «وإن طال السفر!»
- خرجنا ظهر يوم الأحد ووصلنا عصر يوم الغد الاثنين 13 فبراير 2012م.
- طرنا من تونس إلى جدة ثم من جدة إلى الدمام أنا والدكتور الناقد حاتم الفطناسي الذي التقيته بالمطار. كنا الاثنان المدعوان من تونس من نادي الأحساء الأدبي، للحضور والمشاركة في (ملتقى جواثى الثقافي الثالث) الذي سنتحدث عنه بعد قليل. ثم في مطار الدمام التحقت بنا الكاتبة والشاعرة السورية بهيجة أدلبي، ومن مطار الدمام حملتنا سيارة الملتقى مسافة نحو 150 كم إلى مقر إقامتنا في الأحساء بأحد أفخم فنادق المحافَظَة.
عندما وقفت السيارة أمام الفندق، هرع إلينا الصديق الدكتور الناقد نبيل المحيش بحفاوة أهل الأحساء وكرمهم الذي يضرب به المثل، وقد كان يتابع رحلتنا بحرص شديد على سلامتنا من قبل أن نخرج من تونس.
في بهو الفندق وجدنا الأستاذ الشاعر محمد الجلواح عضو مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي، والمدير الإداري للنادي والأستاذ عبد الجليل الحافظ عضو مجلس الإدارة أيضا ورئيس اللجنة الإعلامية بالنادي المرابطَيْن في الفندق مع بقية أعضاء هيئة الاستقبال في انتظارنا للقيام بواجب الضيافة، وقد إنسانا حسن الاستقبال من لدنهم - مشكورين - عناء السفر ومشقته، ورأينا أنفسنا في هذا.. نردد ما قاله شاعر الأحساء محمد الجلواح نفسه من إحدى قصائده:
((آه يا أحساء يا معشوقتي
يا حقول النخل يا أرض الرُطب
تعب أنت إذا لم تأتها
فإذا ما جئتها راح التعب))»
كانت الدعوة الكريمة قد تلقيتها من رئيس مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي الأستاذ الدكتور ظافر الشهري، الذي كان يتابع كل صغيرة وكبيرة في الملتقى ومعه بقية أعضاء مجلس الإدارة، بمناسبة الدورة الثالثة لملتقى جواثى الثقافي المنعقد مؤخرا بمحافظة الأحساء تحت رعاية صاحب السمو الأمير بدر بن محمد بن جلوي آل سعود. وقد وُضع الملتقى تحت شعار «الحركة الأدبية المعاصرة في الخليج العربي».
كانت أرض « طرفة بن العبد « تهوّن عناء السفر وتغري بالزيارة واقتفاء اثر كثير من الشعراء مثل المتلمس - الجارود - المرقش الأكبر، والمرقش الأصغر - قس بن ساعدة... فالأحساء واحة غناء يقال إنها أنجبت شعراء بعدد نخيلها!.
وفي الأحساء مسجد جواثى الذي حمل الملتقى اسمه استحضارا تاريخيا، ورمزا والذي شهد أول صلاة جمعة في الإسلام بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها أيضا حصن جواثى الذي اعتصم به المسلمون في حروب الردة.
«يقول المؤرخون: ارتدّت العرب كلها بعد وفاة الرسول إلاّ أهل جواثى، جواثى هذه وكما يقول ياقوت الحموي: هي حصن لقبيلة عبد القيس، ومنها المنذر بن ساوى الذي أعلن إسلامه هو وقبيلته دون قتال أمام الرسول (ص) وهي أول موضع جمعت فيه الجمعة بعد المدينة».
الأمسيات الشعرية المنفصلة والمرأة الحاضرة بالغياب:
في اليوم الأول دعينا إلى أمسية شعرية ضمن فعاليات مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة الذي ينظمه الحرس الوطني السعودي كل عام، والموازي لفعاليات ملتقى جواثى وفوجئت بفصل النساء عن الرجال جمهورا وشعراء.
بدأت الأمسية بالمراوحة بين شاعر من قاعة الرجال، وشاعرة من قاعة النساء وكانتا شاعرتين فقط هما: سعدية المفرح من الكويت، وتهاني الصبيحة عضو مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي من السعودية، وكنا نشاهد الشاعر الأول عبر شاشة كبيرة أمامنا وكنت أنتظر أن يحدث العكس إذا جاء دور المرأة الشاعرة، وإذا بي أفاجأ أن النساء لا يظهرن على الشاشة وأن الرجال يسمعون أصواتهن دون رؤيتهن، واستغربت: هل الصوت عورة أم الصورة؟ أم أن المرأة كلها عورة.
على أنني أحترم عادات وتقاليد الشعوب وأحب نكهة الخصوصيات لكل شعب من الشعوب لما فيها من متعة الاكتشاف وغواية الدهشة،إلا أني أنكرت احتكار الرجال للشاشة ولوسائل التكنولوجيا دون النساء وما يتبعها من احتكار لوسائل الإعلام أيضا ومن تشريفات وافتتاحات رسمية وغيرها،إذ هي بذلك حكر على الرجال ليس فيه مساواة..
وكان مقدم الحفل يقدّم احدهم ويصفه: بالشاعر الجميل فهمست لصديقة سعودية بجانبي ونحن نتفرج على الشعراء يلقون قصائدهم فهمست لها مازحة: ألا يخشون علينا الفتنة من رؤية الشعراء؟!، وهل الرجال وحدهم الذين يفتتنون ؟ وهل الفتنة خصوصيّة ذكورية لا تمس المراة؟ فروت لي انها حضرت أمسية سابقة يطرح المقدم فيها أسئلة ويأخذ رأي الرجال دون النساء!، مع العلم أن المرأة كانت حاضرة بالغياب في قصائد الشعراء يتغزلون بها ويتفننون في وصف لوعتهم من غيابها.
ومن المفارقات في مثل هذه المناسبات أننا ننفصل نساء ورجالا وقت الحفلات الرسمية ثم لمّا ينتهي الحفل نعود فنلتقي في بهو الفندق ونجتمع مع بعض على مائدة الطعام أوقات الغداء والعشاء ثم نسهر مع بعض في بهو الفندق في مسامرات ليلية يتخللها قول الشعر بطريقة عفوية طبيعية تنساب بساطة وحميمية..
وأشهد انني في هذا الملتقى لم ألحظ رجلا واحدا أساء أدبه تجاه المراة بل بالعكس لم نر منهم إلا التقدير والتبجيل والاحتفاء والاحترام، وبصراحة.. ربما كانوا أحسن بكثير من عدة أوساط ثقافية شهدناها في بلدان عربية أخرى أكثر انفتاحا.
وعندما نطرح مسألة الفصل كان أغلب المثقفين ينتقدونها، ويتذمرون منها.. نساء ورجالا، ولكنهم أخبروني أن الفصل ليس منتشرا في كل مناطق المملكة وهو يتفاوت بصور مختلفة بينها، ويكون في أوساط دون غيرها، وهذا يعود طبيعة وأعراف المنطقة نفسها، وكذلك إلى اجتهاد المنظمين.. أي أنها مفارقات وتناقضات قد لا تجد لها منطقا سليما.
أعمال الملتقى..:
توزعت أعمال الملتقى على مدى يومين: بتسع جلسات علمية مابين محاضرات نقدية وشهادات أدبية، وختمت بمسك الشعر وجماله بأمسية شعرية ناجحة. شارك في الندوات والجلسات العلمية من تونس الناقدان حاتم الفطناسي، ونجيب العمامي إلى جانب عديد من الأسماء المعروفة أيضا في ميدان النقد مثل حسن النعمي وسلطان القحطاني واحمد الطامي من السعودية وسعيدة خاطر من عُمان وزهير المنصور من الأردن وجمال حماد من مصر وغيرهم، وكانت البحوث كلها تدور حول الحركة الأدبية المعاصرة في الخليج العربي، محور الملتقى. أما شعراء الأمسية فهم:محمود الحليبي وناجي حرابه من السعودية وبهيجة أدلبي من سورية وحياة الرايس من تونس.
سهرة أحسائية أسطورية..
على هامش الملتقى ومن التقاليد الأحسائية العريقة في الضيافة والكرم أن تدعو العائلات الكبيرة ضيوف الملتقيات عندها في بيوتها، وقد دعتنا عائلتا الحسيني وعائلة الجبر وكانت هذه الأخيرة تقيم صالونات أدبية نسائية، فقد حضرنا افتتاح « صالون الدنيا «، الذي يحمل اسم صاحبته سيدة الأعمال الأستاذة دنيا الجبر احدى بنات العائلة وكان احتفاء أسطوريا....لقد استقبلونا بالدفوف والزغاريد والبخور والغناء في مدخل القصر كأننا في عرس ثم أحاطوا أعناقنا بقلادات الريحان وكانت تلك تحيّة أحسائية تقليدية والوصيفات الفليبنيات يمرون علينا بالقهوة والتمر والحلويات الأحسائية ومباخر العود تمر على كل النساء وهي تعبق في كل أرجاء الصالون الكبير المتفرع لعدة صالونات أخرى لهذا القصر الكبير وكان الشعر حاضرا منتشرا في المكان وفي تقاليد المجالس... ثم قامت بعض صبايا العيلة باستعراض اللباس التقليدي مصحوبات بفرقة «القرقيعان» التقليدية كما قمن بمشهد جلوة العروس التي قدمت في ثوب طويل مطرّز اخضر وغطاء كبير مستطيل مطرّز اخضر أيضا تعبيرا للتفاؤل، حيث يمسك به البنات من كل طرف فوق رأس العروس ووسط زغاريد النسوة وعجعجة البخور وهن يرددن: «لا اله إلا الله وألف صلاة على النبي.......... «و يرددن أغنية الجلوة الحساوية التقليدية:
« أمينة في أمانيها
مليحة في معانيها
تجلت وانجلت حقا
سألت الله يهنيها
ظفائر شعرها حلّت
على اكتافها دلّت...
ثم في الأخير دعينا لطاولة العشاء وكانت أصنافا لا تحصى من الأكلات التقليدية الأحسائية
و كان التواضع والبشاشة والبساطة والحميمية ترتسم على وجه صاحبة البيت وبناتها وكل الحاضرات الحساويات بعيدا عن تكلف وبروتوكولات بعض الصالونات المصطنعة.
كانت ليلة أسطورية كأنها خرجت من حكايات ألف ليلة وليلة.
ما يبقى من الملتقيات...**
إن أهم ما في هذه الملتقيات الثقافية هو التعارف الإنساني والتبادل المعرفي والتلاقح الفكري والثقافي.
ولقد عدت بمجموعة من الكتب والإصدارات القيمة لعديد من الكتاب الذين أعرفهم من قبل أو الذين تعرفت اليهم هناك، ومن بين هذه العناوين:
* لمسات مؤجلة « للشاعرة والفنانة الرقيقة حميدة السنان، التي آنستنا ورافقتنا طوال رحلتنا
* أرى نسوة يسقين الجثث « للشاعر صالح الحربي.
* نزف ديوان شعر لمحمد الجلواح
فضاءات كتاب نثري لمحمد الجلواح وهو مجموعة مقالات نشرت في عدة صحف عربية *
* ناي « لعبد الجليل الحافظ.
* بحث عن الرواية الخليجية للناقد سلطان القحطاني
* أزهار الليل،
* مساء تثأثأ بالبخور.
* تضاريس الوردة... لعلى الدرورة.
* عمياء أحمل مصباحي لبهيجة أدلبي من سوريا.
* عربي في القاهرة لغازي عوض الله المدني: تأملات موسم الحصاد.
* وكتاب الكاتب الصحفي صالح غريب «باراسيكولوجيا علي الدرورة «
وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره.
* شاعرة وكاتبة وإعلامية تونسية