لم يعد الإعلام وسيلة (أداة Means, a tool) للتواصل مع المجتمع عبر إرسال المعلومات والمواقف (المحايدة أو الموضوعية المستقلة أو المساندة والمنحازة) فقط، وإنما بات كذلك، أداة حاسمة في تحطيم الرموز التي أنتجها المجتمع أو عاش في ظلها. لقد بيّنت أحداث غزو العراق، ثم أحداث ما يسمى الربيع العربي، أن محو الرموز لا يعني إزالة النصب التذكارية التاريخية والدينية والسياسية والثقافية وحسب، وإنما تغيير التصورات السائدة عنها عبر خلخلة الإدراك الشعبي، وحتى التقليدي الذي عاش بألفة شديدة معها طوال عقود، وبحيث تصبح مسألة إزالتها هدفاً قائماً بذاته.
ويبدو من سلسلة وقائع مترابطة أن التلاعب بالثقافة الشعبية يتمّ عبر إنشاء تصورات جديدة للرموز ذات طابع عدائي مخيف.
إن تحويل الكتل الشعبية في الشارع، وبواسطة ضغط إعلامي مكثف، إلى جماعات مناهضة للرموز التي عاشت في كنفها لوقت طويل، هو الجزء غير المرئي من نشاط وسائل الإعلام في هذا الحقل.
وبالتوازي مع هذا النوع من خلخلة الإدراك الشعبي والتلاعب به، تجري عمليات مُمنهجة لتثبيت رموز بديلة.
خذوا مثلاً، واقعة تحطيم تمثال الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (باني بغداد)، الذي يزين مدخل شارع جميل يؤدي إلى أحياء بغداد الراقية.
في الواقع، صُدم العراقيون بنبأ الاعتداء على التمثال، ولم يجدوا أي تبرير مقبول يفسر الجانب الغامض من هذا العمل.
لكن سياق النشاط الذي قامت به وسائل الإعلام المحلية قد يكشف عن البُعد الخفيّ وراء الإلحاح على نقل الصراع من حيّز الأهداف والمطالب السياسية إلى حقل الرموز.
إن تحليل حادث العدوان على تمثال باني بغداد سوف يكشف عن البُعد الخفي في هذا الصراع؛ فالرموز التاريخية بشحناتها الثقافية والروحية هي التي تشكل عائقاً حقيقياً، وربما رادعاً لأي محاولة لتفتيت الهوية الوطنية الجامعة حتى مع تفاقم أشكال التصدّع في الوحدة. ولذلك تتخذ عمليات الاعتداء عليها وإزالتها أو العدوان عليها طابع العمليات الهادفة بشكل مباشر لإزالة هذا العائق، ولمنع أفراد المجتمع من التوافق على التاريخ الرسمي القديم.
والأمر ذاته ينطبق على المحاولة الفاشلة لسرقة تمثال رئيس الوزراء الأسبق عبد المحسن السعدون (الأربعينيات من القرن الماضي) في الأيام الأولى من الاحتلال.
إن سرقة التمثال تصبح هي ذاتها عملاً رمزياً، القصد منه المساهمة في إزالة العائق أمام استمرار السجال حول الهويّة.
وبهذا المعنى فقط سوف يؤدي تدمير أو محو الرموز إلى تفكيك الإجماع التقليدي على التاريخ الرسمي، أي على السردية التي شكلت وعي المجتمع لنفسه.
هولندا