هل من الممكن أن تكتب عن عمل أدبيّ دون قراءته كاملاً؟ الجواب بالطبع: لا. غير أن ثمة حالات استثنائية تقرأ فيها عرضاً موجزاً عن عمل أدبيّ فلا تملك أمامه إلا المبادرة بكسر القاعدة الافتراضية والتعامل مع (العرض الموجز) كحدث ثقافي أدبي، في حد ذاته، ويستحق التوقف والتأمل ومن ثم الكتابة والإشادة..
ذلك ما خلصتُ به فور انتهائي من قراءة العرض الموجز المعنون (عندما تكون لغة الإشارة أبلغ من لغة اللسان) الذي وصلني عبر البريد الإلكتروني عن رواية (يدا أبي) للأديب الأمريكي مايرون أولبرغ، المولود عام 1933 وهو العام نفسه الذي انطلقت منه أحداث روايته، وقد نقلها إلى العربية الناقد الفلسطيني الشاب المبدع مازن معروف، وصدرت حديثاً ضمن أعمال (مشروع كلمة) للترجمة، التابع لهيئة أبو ظبي للثقافة والسياحة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو المشروع الحاصل على جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة مؤخراً، وقد استحق ذلك الفوز بكل جدارة..
ما يعنيني هنا أن العرض الموجز للرواية مكتوب بلغة أدبية رفيعة، ويصف أجواء وأحداث الرواية بدقة متناهية لدرجة أشعرتني أنني قرأتُ الرواية كاملة حتى أعجبت بها (!) وهي حقاً تستحق الإعجاب، فهي تتحدث عن أب وأم من غير القادرين على السمع والنطق (الصم والبكم) يحكي عنهما ابنهما الذي ولد سليماً مكتمل الحواس قادراً على السمع والنطق ولكنه تربى على إشارات من أياديهما حتى كبر وأصبح هو المؤلف نفسه للرواية..
ونحن هنا لسنا بصدد سيرة ذاتية طبيعية، فالمؤلف أديب محترف وله أعمال عدة منشورة في كتب، ولكنها لم تترجم قبل هذا العمل، فبعضها حكايات للأطفال وبعضها قصص وروايات وأعمال فكرية نال عنها جائزة تقديرية، غير أن هذا العمل (يدا أبي)، كما يبدو من العرض الموجز الذي قدمته المؤسسة الناشرة كتعريف بالرواية ومؤلفها ومترجمها وعممته على مختلف الصحف العربية، سيشكّل العلامة الفارقة في مسيرة مايرون أولبرغ الأدبية ويجعل منه واحداً من أهم الروائيين في العالم كما أرى، فروايته هذه أحسبها لن تمر مرور الكرام في زحمة الروايات العالمية -بخاصة الأمريكية في هذه المرحلة- لأنها قد لامست فئة لها وجودها في كل المجتمعات (وأعني ذوي الإعاقة النطقية تحديداً) ملامسة لها خصوصيتها وأثرها في تكوين المؤلف نفسه، ولم يحدث أن لامس عملٌ أدبيٌّ روائيٌّ هذا الجانب من الإنسانية بهذه الحبكة الأدبية الدرامية الواقعية التي لا تعرض ولا تقول ولا تحكي ولا تصف بقدر ما هي تبدع في أخذك من مكانك لتضعك في الصورة شاهداً ومراقباً ومتابعاً ومعجباً تغمرك الدهشة والتأملات في معظم الأفعال وردود الأفعال من الشخصيات وتجاهها بالمجمل، فبمجرد أن تتخيل الفكرة أو تتخيل نفسك وأنت في مطلع طفولتك تتعرف على العالم من خلال يديْ أبيك وهو يشير لك بهما عوضاً عن الكلام الذي تستطيعه وحدك ولا تجد من يشاركك به من أبويك، وبمجرد أن تتخيل أنك تكبر وتحتفظ في ذاكرتك بتلك الإشارات اليدوية الأبوية الآمرة والناهية والقاسية والحانية، ستجد أنك تعيش عالماً تعرف أنه موجود من حولك ولكنك لم تعشه قبل معايشتك للرواية التي تتجلى لك في (العرض الموجز) الذي لم أنقل منه أي شيء لأنه منشور في أكثر من مكان.. وقد ذكّرني ذلك بالعرض الموجز لفيلم (تيتانيك) الذي نشرته بمختلف اللغات المؤسسة المنتجة للفيلم عام 1998 فكان العرض المترجم إلى لغات العالم المختلفة مثاراً لاحتشاد الناس أمام دور العرض السينمائية في كل مكان تتوافر فيه شاشات السينما، ومنهم من كانوا يسافرون من بلد إلى بلد وهم يمسكون بالمناديل طلباً لمشاهدة الفيلم وذرف الكثير من الدموع على تلك الحادثة الأليمة وذلك الحب الذي ولد ومات في البحر، كما مات أكثر من ألف وخمسمائة إنسان كانوا ضحايا الباخرة المنكوبة..
أذكر في تلك الفترة مقالة افتتاحية لإحدى المجلات الثقافية العربية كانت تتحدث عن الفيلم بكثير من التأثر والإعجاب، وبالتحليل الأدبي والفني والنفسي والثقافي، ثم في ختام المقالة يذكر كاتبها أنه لم تتح له فرصة مشاهدة الفيلم حتى لحظة كتابته لمقالته تلك، غير أنه قد كوّن فكرته عن الفيلم من قراءته لما كتب عنه من عروض موجزة!
وذلك ما حدث لي بالضبط وأنا أقرأ العرض الموجز لرواية (يدا أبي) وربما سأكتفي به ولن أبحث عن الرواية، لأن الفكرة قد وصلتني والحالة قد عايشتها من خلال ذلك العرض الذي لا أملك أمامه إلا تقديم خالص الشكر لمشروع (كلمة) في أبو ظبي على ترجمة الرواية أولاً، ثم على العرض الذي كتب بصياغة أدبية وافية وراقية تستحق الإشادة والإعجاب..
ffnff69@hotmail.com
الرياض