(أ)
لئن كان الماء أصل الحياة على (مستوى الوجود) فإنّ الإنسان أصلٌ على (مستوى الوعي بالوجود)، وهذا الوعي مرتهن بخلافة الإنسان في إدارة شؤونه، والتأقلم مع الطبيعة بما لديه من وعي متعدّد المستويات ومن قدرات غير محدودة، وهذا متمثّل في الآية 20/ البقرة {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة}. ولأن الحيّ من الحياة، وهو الممثّل عنها وفق سُلّم الوعي الحلزونيّ ومنجزات السلوك المتفاعلة معه، وهذا أصل مفهوم الخلف القائم على السلوك الفاعل مع سلّم الوعي؛ فتمثيل الحياة وظيفة الحيّ بالوعي، الذي من طبيعته وخصائصه أنّه يعي وجوده وتمثيله معاً، وهذا الوعي بالوجود هو أوّل سلّم الوعي؛ لذلك فإن (مسؤوليّة الخلافة) حالّة فيه بصفته موجوداً (حيّاً - واعياً بوجوده)، وإن كان الوجود أسبق من الوعي إلاّ أنّ الوعي هو الكاشف لهذا الوجود، والناجم عنه منظومة متغيّرة من الضرورات والأولويّات والثانويّات، كما أنّ المسؤوليّة حالّة فيه بصفته مكلّفاً (حيّاً - واعياً بتكليفه) ومضطراً بضرورة الوعي بالوجود للقيام بمهام التكليف، وحالّة فيه بصفته قادراً (حيّاً - واعياً لقدرته) وقوّته على التفاعل بين تصوّرات وتجريدات ذهنيّة الوعي وبين سلوكه وممارساته، وفي مهارة تطويع مصادره الداخليّة المتمثّلة بالعقل وبالفكر وباليدين، والخارجيّة المتمثّلة بالمخزون الأخلاقي والتاريخي، وبالطبيعة وظواهرها؛ وحلول المسؤولية في أشكالٍ عديدة من فكر وسلوك الإنسان أساسها (ضرورات الوعي بالوجود) التي هي قفزة الأنسنة الأولى عبر قيامه بإجراءات لمصلحة وجوده وحمايته؛ وهي ضرورات تختلف باختلاف التهديدات المُدْرَكة بين الأزمنة والبيئات المختلفة. أمّا (سلّم الوعي الحلزونيّ): فهو مستويات تطوّر الوعي: (الوعي بالوجود: الذات وخدمتها، الوعي بالاستطاعة: الوظيفة والقدرة، الوعي بالتضحية والتنازل: الانتماء للجماعة..)، وهي حلزونيّة لأنّ أنواع الوعي تتصاعد في مدارات متعدّدة المستويات، فتعود مرّة أخرى بوعي ذي مكتسبات مختلفة عن المستوى السابق؛ أيْ أنّ الوعي بالوجود مثلاً يتطوّر ويختلف تبعاً لموقعه داخل مدارات الوعي الحلزوني: إن كان في شبه المدار الأوّل، أو الثاني أو الثالث، وهكذا، وبحيث إن كلّ وعي في مدار السلّم الحلزونيّ متقدّم عن الوعي السابق له، متضمّناً وكاشفاً له أيضاً، وهذا الذي يجعل مفهوم الخلف مفهوماً تقدّمياً يتطوّر بمكتسبات ما قبله، وبمنجزاته.
وتمثيلاً على إجراءات «ضرورات الوعي بالوجود» فإنّها تختلف في الصومال عنها في الخليج، وغياب هذا المفهوم أو المساواة بين الضرورات يُشوّه دلالة حكاية القرصنة الصوماليّة بوجه سفنٍ تمخر مثقلة بالبضائع أمام شواطئ يموت فيها الإنسان جوعاً. فمن المشروعيّة الوجوديّة للإنسان أن تختلف الضرورات عند (القرصان الصوماليّ) عن (قبطان السفينة)؛ فلا يمكن أن تطالب (الصوماليّ) اليوم بناءً على «ضرورات الوعي بالوجود» أن يلتزم بمدوّنته الأخلاقيّة كما هي، قبل المعالجة الفاعلة لكارثة المجاعة؛ إذ إنّ الأخلاق نفسها تتأثّر (بضرورات الوعي بالوجود)، حتى تتوارى أو تتراجع على سلّم الضرورات، وشيءٌ من هذا القبيل يرشح في القاعدة الفقهيّة: (الضرورات تبيح المحظورات)، أو الفلسفة الميكيافيليّة: (الغاية تبرّر الوسيلة). ولتمثيلٍ من متون السلف الصالح، لعلّنا نوسّع دلالات التصرّف المنسوب للخليفة عمر بن الخطاب (رض) بتجميد الحدّ الأعلى للسرقة في عام المجاعة، حينما أجبرت ضرورات الوعي بالوجود تغير الأولويات ممّا أخضع التشريع للتجميد آئنذاك؛ فأنت لا تبيح السرقة بأمر كهذا، إنّما لا تعاقب على إثم يضيع وزره في أسباب تتجاوز الأخلاق والفرديّة، ويتحمّل الكيان وزر حالة لم يوفّر لها ما يردع آثارها على الفرد وحياته. أمّا المقولة المنسوبة لأبي ذرّ الغفّاري: (عجبتُ لمن لا يملك القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه) فإنّ ضرورة الوعي بالوجود هي التي تجعلها مقولة مقبولة على الرغم من تجاوزها للعديد من أسس الأخلاق والعرف والدين أيضاً.
(ب)
المقصد من هذا المدخل أنّ (الخلف) موجودٌ (حيّاً - الآن)، وأنّ وعيه بوجوده واستطاعته على تلبية متطلبات الوعي يلزمه بها تكليفاً؛ فعلى قدْر ما يكون مُبتعداً عن ضرورات الوعي يكون مبتعداً عن تمثيل وجوده بحضوره، ولا تتطابق (خلافته: أيْ حياته) مع مصلحة وجوده وخدمته.
إنّ علم الخلف ذو طبيعة تراكميّة، يحمل مخزوناً سلفيّاً/ تاريخيّاً، إضافة إلى ملاحظاته وخبراته؛ لذلك فإنه مؤهّلٌ بالخلافة للنمو وعدم التوقّف عند الأيلولة المعرفيّة الموروثة، بل تطويرها بما يخدم مصالح حاضره. هكذا يكون (الخلف) أكثر اطلاعاً وتعقّلاً وتفكّراً حيث لديه علم السلف وأحداثهم، والقدرة على فرز الموروث واستغلاله. فأيّ دلالات يحيل إليها إغلاقُ باب الاجتهاد وطمسُ العقل؟ وإلى أيّ مدى يفضي تأبيدُ السلفِ إلى إفناء الخلف، حينما يرتضي الحيّ أن يكون صوت الميّت! وحين يتحوّل التاريخ من مصدر يخدم الحاضر إلى مستبدّ يهيمن عليه، أو حين يتحوّل إلى قيمة تعادل الحياة، وتحلّ محلّ الخلف وتلغي هويّته.
تحمل كلمة (الخلف) ومشتقّاتها في اللغة معانٍ عديدة: (ضدّ السلف، عوض، بدل، وراء، عقب، نسل، خلاف، اختلاف)، وهذه المعاني تقدّم دلالات التغيير والتقدّم والاستمراريّة في مفهوم الخلف تأهيلاً لمخالفة السلف عند اقتضاء الحاجة، وفي الأيلولة الإصلاحيّة الخلافيّة سنّة الله في الإنسان والتطوّر، ونحن -ها هنا- نضيف إلى معاني الخلف - اصطلاحاً عقليّاً - معنى الحيّ والوعي؛ لأنّه لا يكون خلفاً إلاّ حيّاً واعياً؛ ومعاني أخرى: (التكليف، التغيير، الرعاية) وكلّها مشتقّة من مفاهيم الخلفيّة التي نقدّم لها.
فلئن بحثت في مقالات سابقة في مفهوم السلف الصالح فإنّه من الضروري مناقشة مفهوم (الخلف الصالح)، علماً بأنّ أيّ سلفٍ ناقشنا مخرجاته ومناهجه إنّما هو أثناء الممارسة والإنتاج يصنّف تحت باب (الخلف - الحيّ) وليس تحت باب (السلف)، وقد تبدو هذه بديهية إلى درجة أنّ القوم يتجاهلونها في تعظيم مفهوم السلفيّة طمساً للمصطلح الأساس (الحيّ/ الخلف)؛ ذلك أنّ السلف هو (مخزون فكريّ وسلوكيّ) أمّا الخلف (فهم الأحياء المنتجون لذلك المخزون الفكريّ السلوكي)، فما هو (الخلف الصالح) وفقاً لاختبارات قانون الصلاحيّة وضرورات الوعي بالوجود؟
هو ذاك الجيل الذي يستخدم مصادره استناداً إلى مصالحه ومنافعه، ويضبط موروثاته بإخضاعها لقانون الصلاحيّة. وكلّما نجحت هذه العملية بتحقيق غاياتها فإنّ تمثيل الحاضر بالحضور يرتقي بتقديم الجيل إبداعاته وإنتاجاته تمثيلاً عن نفسه، وإذا ما تعثّر فإنّه يقع تحت احتلال تاريخيّ يسلب إرادته ويهدّد قيمة بقائه، حتّى يتضاءل وينحصر وجوده بالمعنى البيولوجيّ البشريّ المتعلّق بالمأكل والمشرب، ويخرج المعنى الإنساني المتعلّق بالفكر وبالسلوك وبالإنتاج، وذلك بتنازله عن الخلافة حينما يفشل بتمثيل حاضره بحضوره، وأيّ تنازل عن أحد العناصر الثلاثة الرئيسة في مفاهيم الخلَفيّة: (الوعي، الحياة، الخلف) فإنّه يهدّد العنصرين المتمّمين.
قد تبدو مسألة مناقشة: (مفهوم الخلف/ ومفهوم السلف) أنّها من باب المسائل المتشابهة أو الدائريّة التي لا تختلف فيها النتائج كثيراً بتغيير جهة المنظور، لكنّ تفكيك كلا المفهومين واستخراج الدلالات التراتبيّة والعلاقات التكوينيّة بين الوعي والحياة والخلف يظهر نتائج مختلفة؛ حيث إنّ مفاهيم السلفيّة تفضي إلى تفاضليّة: (الماضي، الحاضر، المستقبل)، وهي تراتبيّة بدائيّة يتوهّمها شرك الحنين إلى الآبائيّة، والخوف من المجهول والجديد، وتنتج (المنحنى التاريخي المتراجع)، وهذه النتيجة تلغي مسألة التطوّر الكائن بالحدوث، فأيّما شكوك في الخلافة والتطوّر لا تصمد أمام البحث والعلم والمشاهدة، وهي المعاني المتحقّقة في مفهوم الخلف الدالّ على الوعي والحياة، (والمنحنى التاريخيّ المتطوّر) الذي تقدّمه المفاهيم الخلَفيّة في تفاضليّة: (الحاضر، المستقبل، الماضي)؛ حيث إن الحاضر هو الحيّ الذي يحتاج إلى تمثيله بالحضور وفقاً لضرورات سلّم الوعي، أمّا الماضي فمادّة تحت تصرّف الحاضر، كما أنّ المستقبل تصوّر لحيٍّ سيأتي ويمثّل حضوره وفقاً لثلاثيّة مفاهيم الخلَفيّة: (الوعي، الحياة، الخلف)؛ فكلّ سلَفٍ ميّت، وكلّ خلَفٍ حيٌّ، وخلافة الأرض منوطة بالأحياء.
جدّة
Yaser.hejazi@hotmail.com