ليس بالمقدور امتلاك بُنية ذاتية متفتحة من غير إعلاء سقف الاحتفاء بتعميق ثقافة التثقف والعمل على تكثيف الأفق الخبراتي والاستعانة بكمّ نوعي من الأدوات التي تحرض الوعي على نسل طوفان من المتتاليات الذهنية. وفي سبيل إيجاد تلك البنية لا بد من توفر أجواء تربوية ذات محددات قادرة على استنبات ذلك المركّب الذهني الفسيح الأبعاد، ومن أبرز ما تتكئ عليه تلك المحددات ما يلي:
أولاً: التخلية قبل التحلية, حيث يباشر المعني بذلك مسحاً استقصائياً للمسطح الذهني بغية تنقيته من الأوشاب البيئية الملتصقة به وتطهيره من العناصر المعلوماتية، سواء تلك التي ثبت مجافاتها للصوابية أو تلك التي فقدت – بفعل تقادمها - وظيفتها العملية، وهذه هي التخلية كتوطئة إلى التحلية المتمثلة في ممارسة المضي نحو استزراع الأدبيات التي أثبتت منطقيتها وتوظيفها على نحو فعال ومؤثر في مفاصل المتعين المادي.
ليس بمكنتنا أن نقر في إخلاد النشء ما نرومه من تصورات من غير تخليص خرائطهم الذهنية من القبليات العرفية والترسبات القبْلية والمسبقات المتجذرة في أغوار الذات والمتناثرة في جنباتها. التحوير في اتجاه الوعي شأن عسير المرتقى, لماذا؟ لأن الخبرات القبْلية التي امتصها الوعي وانداحت في منحنياته قد امتزجت باللحم والدم حتى باتت جزءاً لا يتجزأ من الكينونة، ولذا فأي نقد يوجه إليها هو موجه في نظره إلى شخصه، وهو عندما يتنازل عنها فكأنه فقد شيئاً من ذاته، ولذا فعندما تزوده بمعطيات رؤيوية غير مألوفة وعندما تمده بأفكار لم يعتد وعيه سماعها فإنه ينفر من ذلك, حيث الأذن تتقزز مما لم تألفه, تجد صعوبة في التقاطه, حيث إمكانية التعايش هنا متعذرة ما لم يجر الإرهاص لذلك من خلال زحزحة وزعزعة العوائد الذهنية الحائلة دون تموضع الأبنية المفاهيمية المعتبرة.
إن البُنية المكبلة بالأدواء كالدوغمائية والطوباوية والرؤية الأحادية, والجنوح نحو تبسيط ما من طبيعته التركيب, والإذعان للمقولات الذائعة, وتصنيم الذوات والهيام في التقاليد وعقلية البعد الواحد وتقديس الأعراف التي لا تمتّ للمعرفة بوجه, الاتصاف بهذه الأوصاف يقلل من فرص التجاوب مع كل معطى مغاير للسائد العرفي، وهذا هو ما يلقي عبئاً إضافياً على كواهل ذوي الإصلاح.
ثانياً: الأزمنة التي تستفحل فيها حالة من تفاقم الأزمات تبيت أرضاً خصبة للنمو الإبداعي ولو تأملت لألفيت معظم الطفرات العلمية مدينة وإلى حد بعيد إلى تجلي المشكلات الكأداء التي تستنفر الطاقات وتستجيش المفردات الكامنة وتستثير مبلورات العطاء المبهر, ولاغرو, فذوو القدرات البحثية المتعاظمة لا يستسلمون للعوائق ولا يهِنون أمام العقابيل, بل يستخِفّون بالأهوال العلمية ويستعذبون منازلة الإشكاليات البحثية التي باينت حدسهم، فهم يدلفون معها في عمليات تحاورية يتنازلون بموجبها عما ثبت عدم صوابيته من الفروض التخمينية الاستباقية.
ثالثاً: التحلي بفضيلة المرونة بوصفها العنصر الأول الباعث على الانعتاق من ربقة الحجب السميكة التي عندما تُسدل على الوعي تعمل على تغييبه وتقلص من قدرته على التحوير في مفهوماته. المرونة تهيء ذويها للتناغم الفعال والتكيف المنضبط مع التجديدات الحضارية التي تجتاح المشاهد قاطبة, أما حين يخفت عنصر المرونة وتضمر مُولداته فإن المرء حينئذ سيتحاشى أن يصيخ سمعه إلا لما يُزكي ما وقَر في خلده، وقالوا {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، تلك الذهنية تظل دائماً قابعة في مكانها حبيسة لجدرانها الثقافية التي أحكمت عليها ضرباً من العزلة الخانقة.
وحاصل القول: إن من الضروري تمرين الوعي على استعراض كم رحب من الآراء المتعارضة حتى يتسنى له مبارحة الشرنقة وتجافي عوامل الإمعية وبالتالي بلورة توجهات مستقلة ومتماسكة منطقياً على نحو يشعر المرء بالتميز والفرادة.
بريدة
Abdalla_2015@hotmail.com