تناولت في المقالة السابقة نموذجاً من نماذج البحث العلمي، بدت فيه الرؤية الأيديولوجية طاغية على الرؤية العلمية؛ فقد بنت الدراسة المقدمات الخاطئة لتؤسس عليها نتيجة محددة سلفاً من خلال الموقف من الكاتب وما يُنسب إليه من انتماءات مغايرة لتوجه المؤلف. وفي هذه المقالة أتناول كتاباً آخر سار في الاتجاه عينه، وإن كان وَفْق طريقة مغايرة؛ إذ يسعى للتنظير لعلم جديد اسمه «بلاغة أهل السنة» من رؤية ليست بعيدة عن الأولى، وإن كانت تتوسل منهجية أكثر صرامة، لكنها تعتمد مكونات انبنت عليها رؤيتها الفكرية مسكوتاً عنها في الكتاب، تبدو من خلال المفهومات التي استعملها المؤلف، والغايات التي توخاها، وكانت الأساس الذي بنى عليها مقدماته. هذا الكتاب هو «بلاغة أهل السنة» للأستاذ الدكتور محمد بن علي الصامل.
صدر هذا الكتاب عن دار كنوز أشبيليا في طبعته الأولى مطلع 1418هـ في 153 صفحة من دون المراجع والفهارس. ويتناول الكتاب كما هو واضح من عنوانه موضوع البحث عن بلاغة أهل السنة، ومن هنا فهو يسعى منذ البدء في تقعيد هذا اللون من البلاغة، وهو ما أكده في آخر المقالة حين قال إن هذا البحث يتمم «الدعوة إلى منهج بلاغي يلائم معتقد أهل السنة» (الصامل، 1426، 12).
والسؤال الذي تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ الكتاب بناء على عنوانه، وما جاء في أهدافه، والقضية التي ندب إليها الباحث نفسه، هل هناك بلاغة لأهل السنة وأخرى للشيعة، وثالثة للمعتزلة؟ إذا كانت البلاغة تعتمد على اللغة للتأثير على المتلقي، وإقناعه، والبحث عن التعبير الجميل، فهل هذا يعني أن مذهب الإنسان يجعل تأثيره يختلف؟ وهو ما يدفعنا للسؤال: هل اختلف شعر الشيعة عن شعر السنة، أو حتى شعر النصارى عن شعر المسلمين من حيث اللغة، وهل أثر شرك شعراء العصر الجاهلي على بلاغتهم، وقد قال الله فيهم {بل هم قوم خصمون} (الزخرف،493)؟ وهل اختلفت بلاغة القرآن عن بلاغة المشركين الذين نزل بلغتهم؟ إذا ثبت ذلك أدركنا أن العنوان يفترض فرضية لا يمكن أن تصح؛ لأنه لا فرق في البلاغة نفسها بين مذهب وآخر، ودين ودين, قد تختلف في اللغات بناء على أن التأثير والإقناع يعتمد على الأعراف والتقاليد الثقافية، والخبرات الشخصية للجماعة، فما تتأثر به جماعة لا تتاثر به الأخرى، على الرغم من أن هذا ليس بدقيق؛ لأن العرب في قديمهم وحديثهم قد استفادوا من البحث البلاغي للأمم الأخرى وأخذوا عنه، وقد أدت ترجمات عبد الله بن المقفع في وقت مبكر في نشأة البلاغة العربية وأبحاثها.
هذه الحقيقة تدفعنا إلى النظر في الكتاب لمعرفة مفهوم بلاغة أهل السنة لديه، ونجده في بنية الكتاب قائماً على جمع التأويلات البلاغية التي قد يُفهم منها أحياناً أنها تخالف منهج أهل السنة في العقيدة، ثم البحث عن وجه آخر لها يلغي تلك الرؤية العلمية، فسعى الباحث إلى أن ينظر في مؤلفات البلاغيين منذ بداية التأليف البلاغي، ويقف عندها واحداً واحداً مبيناً عقيدة كل واحد منهم، وذاكراً المبررات التي جعلته يصنف هذا المؤلف هنا أو هناك، بناء على تأويلاته البلاغية. وتتحدد الملاحظات في المقولات التي تتكرر في كتب البلاغيين، ورأى بعض الدارسين أن المقصود منها هو نفي الصفات، من ذلك المشاكلة في قوله تعالي: {ويمكرون ويمكر الله}، أو تأويل الاستواء بالاستيلاء ونحوها.
وهو ما يعني أن بلاغة أهل السنة تتحدد في هذه التأويلات البلاغية التي يلتزم بها الباحث منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة. كما أنها تتحدد في التأويلات التي لها تماس مع قضايا العقيدة ولا تدخل في مسائل البلاغة الأخرى. وعلى هذا فليست بلاغة أهل السنة كما يرى الباحث سوى مراجعة بعض الآيات للتحقق من أن تأويلها لا يخالف منهج أهل السنة والجماعة، وهو ما يعني أحد أمرين:
أولاً- أن أخذ الأمر على ظاهره، وعدم استخدام أدوات الإقناع المختلفة، واعتبار القول على ظاهره وذا معنى واحد محدد هو بلاغة أهل السنة، وهذا خطأ؛ لأن الباحثين في أصول الفقه بحثوا عن المعنى المجازي، وفي منطوق الحكم ومفهومه، بمعني أن أهل السنة لا يلتزمون في تعاملهم مع النص بوجوهه المختلفة بمعنى واحد لا يتجاوزونه؛ فهم لا يحرمون البلاغة بأساليبها المختلفة.
ثانياً- أنه ليس المقصود بلاغة أهل السنة بمعنى الخصائص التي يصبح به الكلام بليغاً عند أهل السنة بوصفها مختلفة عن الشيعة أو المعتزلة أو الجهمية، وإنما البحث البلاغي عند أهل السنة بمعنى الذين بحثوا في المسائل البلاغية من أهل السنة، وهو بهذا المعنى إلى تاريخ البلاغة أقرب منه إلى البحث النظري في البلاغة الذي سعى الباحث أن يقيمه؛ ولذا فقد يكون العنوان الأنسب لهذا البحث هو: «البحث البلاغي عند أهل السنة». لكن الباحث لم يسر في الاتجاه، وإنما سعى لأن يبني عقيدة المؤلفين على التفسير البلاغي، باعتبارها لازماً بينهما، واعتبار أن هذا التفسير ليس له وجه سوى الوجه العقدي.
وقد يكون مؤلفو تلك الدراسات ينتمون إلى مذاهب وفرق غير المذهب السني، وذلك من خلال مؤلفات أخرى لهم، أو جهود علمية أخرى، لكن السؤال هنا يتصل بالبحث البلاغي وحده، باعتباره حدًّا فاصلاً بين المذاهب العقدية أولاً، ثم بنسب مثل هذه التأويلات المحددة إلى أهل السنة وفصلها لأن تكون بلاغة مستقلة ثم أن يكون التوجيه البلاغي وحده دليلاً على عقيدة المرء.
الرياض