بعض الناس تختزلهم في كلمة أو أقل، وبعضهم لا تكفيه معاجم ومؤلفات.
بعض الناس تعاشرهم عمرًا كاملاً وتنساهم في ساعة. وبعضهم تتعرف عليهم في جلسة شاي، فلا يسقطون من الذاكرة..
بعض الناس يصنعهم التاريخ لأن الصدفة أرادت ذلك.. وبعضهم يصنعون التاريخ لأنهم ولدوا لأجل ذلك.
فأين من هؤلاء جميعًا أبو سعود؟ إنه من طينة الذين لا تكفيهم معاجم ولا تسعهم مؤلفات، ولا يرحلون من الذاكرة، وولدوا من أجل صناعة التاريخ، لأنهم اختاروا الخلود في وجدان الأمة وقلوب الناس.
وأي شهادة في هذا الرجل تكون مجروحة بالنسيان لطغيان الذكريات، وتكون قاصرة عن المعنى لأن البحث عن أرقِّ الألفاظ يقتل اللغة. ومع هذا سأجتهد..
لم أكن أعرف الأستاذ الشاعر المبدع عبدالعزيز سعود البابطين إلاّ من خلال اسمه المتداول في وسائل الإعلام العربية من خلال نشاطه الثقافي والإبداعي وعمله الخيري.. غير أن فرصة أتيحت لي على هامش الدورة السابعة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري ببيروت 1998، فتعرفت على رجل متواضع، مبتسم دائمًا، لا يُرى إلاّ وهو يُحدِّث هذا، ويسأل عن أحوال ذاك، ولا يمكنني أن أنسى موقفًا، كنت شاهدًا عليه، في فندق بورتوميليو بجونية (بيروت) حين لاحظ الشاعر العراقي الكبير عبدالوهاب البياتي، وحيدًا في (طاولة) منزوية، صامتًا ومهمومًا، فسأله: أراك متعبًا.. توصيني بشيء؟ فرد البياتي: متعب قليلاً، شدة وتزول. لكن أبو سعود شعر أن الرجل يمنعه كبرياؤه من أن يطلب شيئًا، فقال له: نحن أهل وإخوة.. إن كنت مريضًا اختر أي مستشفى في العالم، هنا في لبنان أو إنجلترا أو الولايات المتحدة، وسنتكفل بكل شيء، نريد أن نراك دائمًا ذلك الشاعر الذي لا يسكن الحزن عينيه. فاغرورقت عينا البياتي بالدموع. وأدركت حينها أن وطن الشاعر هو الشاعر نفسه.. وكم هي دافئة أوطان الشعراء!.
وفي يوم 7 يونيو 1999 عاشت الجزائر حدثًا ثقافيّاً متميزًا بكل المقاييس.. فقد حطت طائرة الجابرية في مطار هواري بومدين، قادمة من طرابلس (ليبيا) ونزل الثلاثمائة كاتب وأديب وإعلامي عربي يتقدمهم أبو سعود صاحب مبادرة (رحلة الخير) لتهنئة الجزائر بالعهد الجديد، بعد انتخاب السيد عبدالعزيز بوتفليقة رئيسًا للجمهورية، وكانت رسالة قوية، ذات دلالات عميقة. فما قام به أبو سعود، الرجل الأصيل، تعجز عن فعله دول ومنظمات..
وتكريمًا لهذه اللفتة غير المسبوقة من شاعر مؤمن بعروبته، مدرك لدوره في صناعة المصير بفعل ثقافي يعيد تحريك الأشياء في خارطة الأمة شرقًا وغربًا.. ألقى الرئيس بوتفليقة كلمة في ذلك الحفل الذي حضرته نخبة من أدباء وشعراء الجزائر، جعلت الجميع يفرح.. لأن السياسة تنحني إجلالاً للثقافة، ويتوج الإبداع ملكًا في ليلة لا تنسى.. وأشهد أن الرئيس بوتفليقة كان يسألني في كل مرة ألتقيه عن أحوال أبي سعود ويثني على ما يقوم به، ويضرب به المثل في رعاية الأدب والتراث وخدمة الأمة.
هذه الرحلة التي فتح فيها البابطين أبواب الجزائر في ذلك اليوم التاريخي عندما غادرها لم تنغلق وراءه، فعاد إليها في أكتوبر 2000 بتنظيم دورة الأميرين أبي فراس وعبدالقادر الجزائري، ومثّلت لحظة فارقة في علاقة الجزائر بالثقافة العربية، وألقى الرئيس بوتفليقة كلمة في الأميرين قال بعدها المشاركون في الدورة، هذا ناقد بدرجة رئيس دولة (!).
وأذكر أن افتتاح هذه الدورة شهد موقفًا طريفًا كنت بطلاً له... فقد تم اختياري بصفتي رئيسًا لاتحاد الكتّاب الجزائريين عريفًا للحفل، وتقضي مراسم الافتتاح بأن أرحب بالحاضرين ثم أعطي الكلمة لرئيس مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، (أبو سعود)، ويليه رئيس الجمهورية، وبعده أمين عام المؤسسة، (أبومنقذ).. لكن الذي حدث أنني بعد الترحيب، ناديت على الأستاذ عبدالعزيز البابطين، وبعد أن أنهى كلمته، ناديت على الأستاذ عبدالعزيز السريع، في حين هم الرئيس بوتفليقة بالوقوف ثم جلس، أمام دهشة الجميع، وعدت إلى مكاني، وكأن شيئا لم يكن، بينما كانت العيون شاخصة نحوي، فأحسست أن أمرًا ما يحدث دون علمي، فانتبهت إلى ورقة ترتيب المتدخلين لأكتشف الالتباس الذي وقعت فيه، وببرودة أعصاب استدركت الخطأ بابتسامة فيها شيء من الاعتذار اللطيف، قابلها الرئيس والحاضرون بابتسامات عريضة، وألقى بوتفليقة كلمته الأدبية التي غاص من خلالها في عوالم أبي فراس والأمير عبدالقادر.. وقدمت في ختام الحفل الأستاذ عبدالعزيز السريع ليعلن أسماء الفائزين في مسابقة الدورة. وسألني بعد نهاية الحفل أحد الوزراء منزعجًا من ارتكابي لهذا الخطأ البروتوكولي، فأجبته (يا أخي وجدت نفسي بين ثلاثة يحملون الاسم نفسه، عبدالعزيز، واسمي أنا قريب منهم، عز الدين!) فضحك وراح ينشرها بين الحضور.. وعند عودته إلى الكويت اتصل بي الأستاذ عبدالعزيز البابطين ليعرض عليَّ الالتحاق بمجلس أمناء المؤسسة لمدة ثلاث سنوات، لكنها مع توطد العلاقة صارت سبعًا.. أكسبتني كثيرًا من التجربة والمعرفة، واكتشاف رجل ليس كغيره ممن أتاهم الله بسطة في العلم والمال.. والتواضع.
ولأن أبو سعود يتسم بروح إنسانية عالية، كان يستشير أعضاء مجلس الأمناء في كل كبيرة وصغيرة، وبحسه الديمقراطي الأصيل، لم يكن يفرض رأيه أو يشعر من اختارهم أن دورهم لا يعدو أن يكون التأييد فحسب.. بل كثيرًا ما كان رأيه لا ينال الحظوة لدى مجلس الأمناء، فيقبل هذا ويقول بصدر رحب، الرأي ما رأيتم، فأيد إقامة الدورات في قرطبة وباريس، وطهران وشيراز، وعواصم عربية كثيرة، بينما كان أحيانًا يقترح مدنا وعواصم أخرى، ويعطي مبرراته في ذلك، ثم يفتح نقاشًا ويسمع آراء مختلفة، فيتراجع عن رأيه دون أن يتمسك به وهو رئيس المجلس وصاحب الكلمة الأولى.. وهكذا صار دور المؤسسة يتعاظم ويتجاوز بيت الشعر إلى بيت الحضارة، وأضحت رقمًا مهمًا في معادلة الحوار الثقافي والحضاري في العالم.
مثل كثيرٍ من الأدباء والكتّاب والإعلاميين نزلت ببيت أبي سعود بالكويت وتعرفت على بعض أفراد عائلته، وكان بيتًا عامرًا بالمحبة، عنوانًا للصدق، فضاء للتواصل، وليس غريبًا إذا كان هذا البيت جزءًا من تاريخ الكويت، وكل شيء فيه يروي قصة، من السجاد الإيراني الفاخر الذي استمر نسجه أكثر من عشر سنوات، إلى اللوحات الشعرية التي تزين الجدران..
ذات مرة، رأيت في مكتب أبي سعود صورة له تعود إلى الستينيات ومعه أشخاص من غير العرب، فروى لي قصة الصورة ودخوله عالم التجارة.. ثم حدثني عن علاقته بالشعر، والمقناص وبعض طرائفه مع رجال السياسة والفن.. ولأنه يملك سر السرد الجميل فإنك لا تمل منه.. وقد لا تفاجأ إن اتصل بك من جنيف أو باريس أو القاهرة ليطلب رأيك في قصيد كتبه أو فكرة خطرت له.. هو هكذا أبو سعود، رجل أفكاره ليست مشفرة، لكنها عميقة جدا..
في ديسمبر 2007 بعثت إلى الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين رسالة شكر بعد السنوات التي قضيتها في مجلس الأمناء، رأيت أن أعرض بعض ما فيها شهادة في رجل يستحق الكثير من هذه الأمة: (يسعدني كثيرًا أن أتقدم إليكم بخالص المحبة وعظيم التقدير، أخًا كبيرًا، ورجلاً كريمًا، وشاعرًا رقيق المعنى، وخادمًا وفيًا للعربية والشعر والإبداع. ويشرفني أن أرفع إلى جنابكم هذه الرسالة التي أود من خلالها أن أشكر لكم شخصيًا ولمعاونيكم في المؤسسة، التكريم الذي منحتموني إياه خلال الأعوام السبعة التي اخترتموني فيها عضوًا في مجلس الأمناء، الذي أفدت من أعضائه ومن خبرتهم وخبرتكم الكثير، إذ جعلني أختزل المسافة في معرفة ما كنت أجهله عن الثقافة العربية بفضل احتكاكي مع كتاب وأدباء ورجال فكر وإبداع، سواء من خلال الدورات التي شاركت فيها جميعا، أو اللقاءات الاستثنائية التي كنتم تدعون إليها وتنفقون من أجلها الكثير.
أعرف، سيدي الكريم، أنني لن أوفيكم أبدًا، مهما حاولت، ولو جزءا من الذي أعطيتموني إياه، إذ يكفي أن يرتبط اسمي بمؤسسة ذات مرجعية ثقافية عربية وعالمية أنشأتموها لتخدموا بها أمتكم وتراثكم، فمن حق التاريخ أن ينصفكم ويجزيكم ويضعكم في المنزلة التي أنتم أهل لها.
أعرف أنكم شملتموني برعاية الأخ والابن والصديق طوال المدة التي سعيت فيها إلى تقديم مجهود متواضع إلى جانب أساتذة وأعلام أعتز برفقتهم والإفادة منهم، وتأكدوا بأنني سأظل وفيًا لكم ومخلصًا في التعاون معكم ما حييت.. وليس لدي في هذه اللحظة سوى أبيات من الشعر ارتجلتها لحرارة الموقف:
يا أيها الرجلُ الذي في قلبهِ
نبتت زهورٌ مِن رؤى عينيهِ
لا تُفتحُ الأبوابُ إلا عندَهُ
والجودُ يقطر من فيوضِ يديه
لو أنّ لي ما أشتهيه لجئتهُ
بأرقِّ ما في الروحِ منه إليه
من بسمةٍ تعلو المحيّا كلّما
أبصرتُهُ ذاب القصيدُ لديه
طبعي الوفاءُ فخذْ وفائي إنني
من آل بيتِكَ.. والسلامُ عليه
أعرف أنني لم أقل كل شيء عن الرجل، لأن ما سهوت عن ذكره يقوله غيري، ومثلما يقولون في المثل الشعبي عندنا (قطرة قطرة.. تمتلئ الساقية).. وأي ساقية إذا كان الأمر يتعلق بشخصية في قيمة أبي سعود وعالمه الذي لا نهاية له..
وزير الاتصال الجزائري سابقًا