لا أذكر أنني واجهت صعوبة في الكتابة عن شخصية ثقافية، أو أدبية في يوم ما كما واجهتها حين تهيأت للكتابة عن الشاعر الأديب، عاشق الثقافة العربية الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين، فالرجل متعدد الجوانب في قيمه الإنسانية العالية، وأنشطته الثقافية المتنوعة، فضلاً عن ممارسته الإبداعية في كتابة القصيدة العمودية وفق قيم الشعر التراثية الأصيلة، التي أصّلت فيه حب الشعر العربي، حتى غدا بحق عاشق الشعر العربي.
لا نعرف أحدًا في حياتنا الثقافية المعاصرة أخلص للشعر العربي، وبذل فيه جهده، ووقته، وماله، كما فعل هذا الرجل على مدى أكثر من عشرين عامًا متواصلة ولا يزال، لم يعرف فيها اليأس، أو السأم، أو الوهن، أسس من خلالها أكبر مؤسسة تعنى بالشعر العربي عام 1989م في القاهرة، وأطلق عليها اسم مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، كانت وقتها ولا تزال، حدثًا فريدًا رد الاعتبار لقيمة الشعر العربي، بوصفه الهوية الثقافية الأولى للعرب، وبخاصة بعد أن تعرضت هذه الهوية للتهميش، والتخريب على يد نفر ظنوا، وبئس ما ظنوا، أن الشعر العربي قد استننفد إبداعاته؛ لغة وموسيقى، وأن رؤى الشاعر المعاصر أكبر من أن يستوعبها هذا النمط من الشعر، وأن الوسيلة الممكنة للإبداع هي القفز على أوزان الشعر العربي، بل والقطيعة معه، ومع كل أشكال التراث، ما أمكن ذلك، فجاءت معظم تجاربهم الشعرية، إن صح إطلاق مصطلح الشعرية عليها، مسخًا لا هوية لها، لا من حيث اللغة التي أسيء استخدامها بصور وأنماط مستغربة، أبيحت فيها محظوراتها على نحو يشعر بالغثيان، بل تجاوز ذلك إلى المعنى الذي أصبح الإبهام والتعميمة أحد أعمدته الرئيسة في هذا النوع من القصائد السمجة المعنى والمبنى.
وسط هذا الصخب الشعري العابث، الذي استشرى في أنسجة الثقافة العربية، في محيطها الواسع، أدرك الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين بثاقب بصره وبصيرته أنه قد، آن الأوان لرد الاعتبار للشعر العربي، فأنشأ مؤسسته هذه، التي كانت كما يقول حلمًا من أعز أحلامه، وقد اختار لها التوقيت والمكان المناسبين، التوقيت عام 1989م حيث كانت الموجة الشعرية الحداثية في أعلى درجات غليانها بين مناصريها ومعارضيها، كما صورتها المجلات الثقافية آنذاك، والمكان القاهرة، عاصمة الثقافة العربية في ذلك العام نفسه.
ومن ثم فلم يأت إنشاء هذه المؤسسة للبهرجة الإعلامية، كما لم يستهدف إنشاؤها إضفاء شهرة على صاحبها، فالرجل ليس محتاجًا إلى شيء من ذلك، فهو شخصية معروفة لها وزنها وقيمتها سواء في المجال الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الإبداعي، والأخير هو عالمه الأثير الذي قاده إلى إنشاء هذه المؤسسة الثقافية الفريدة، إضافة إلى العوامل الأخرى.
لقد راهن بعض المثقفين على أن مصير هذه المؤسسة سيؤول في النهاية إلى الفشل، بحكم طبيعة المؤسسات الثقافية الفردية، التي لاتصمد كثيرًا أمام متطلبات الإنفاق المالي المستمر، فضلاً عن عدم خبرة الرجل في إدارة مؤسسة ثقافية عرضة لمناورات المثقفين ومشاغباتهم، بل وعداواتهم أيضًا إذا استدعى الأمر ذلك، لكن إيمان الرجل بما يعمل، وتصميمه المستمر على العمل الجاد، مع نقاء السريرة، وصفاء الدخيلة، وطلاقة الوجه، والرهان على القادم من الزمان، كلها عوامل ساعدت على إجهاض أمثال هذه الرهانات المتشائمة، ومضت المؤسسة شامخة تحقق في كل فرصة إنجازًا ثقافيًا يضاف إلى إنجازاتها المتعددة.
لقد انبثقت المؤسسة قوية منذ نشأتها، إذ استطاع صاحبها أن يستقطب إليها قادة الفكر الثقافي من الخليج إلى المحيط سواء في مجال التنافس على جوائزها، أو الاشتراك في ندواتها، أو الانضمام إلى مجالسها، كما وجد فيها الشعراء العرب البيت الذي يستظلهم بعد الشتات الشعري، والتقدير الذي يليق بإبداعاتهم فراحوا يتنافسون على جوائز المؤسسة بأعداد كبيرة تجاوزت الحدود المقدرة، في كل دورة من دوراتها، حتى أصبحت جوائزها عنوانًا على التفوق والأصالة والإبداع.
لقد أدرك صاحب هذه المؤسسة، الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين منذ بداية نشأة المؤسسة أن عوامل نجاحها واستقرارها واستمرارها يكمن في عدة أمور لا بد من توفرها: التمويل المالي المستمر، والإدارة الجيدة، والتخطيط المتواصل للمشاريع الثقافية، ووضع اللوائح والنظم، التي تكفل حُسن سيرها، فحقق لها كل ذلك بحسن إدارته فضلاً عن متابعاته الشخصية لكل ما يسهل حسن أدائها، حتى أصبحت أهم مؤسسة ثقافية في عالمنا العربي، يفتخر العرب بإنجازاتها الثقافية، التي فاقت كل التوقعات.
بالأمس القريب احتفلت المؤسسة في القاهرة، موطن النشأة الأولى بمرور عشرين عامًا على إنشائها، وسط جمع حاشد من المفكرين والمثقفين العرب والأجانب، جاءوا من كل حدب وصوب ليشدوا على يد صاحبها، ويحثوه على مواصلة السير في خدمة الشعر العربي بخاصة والثقافة ال عربية بعامة.
لقد شهدت رحلة العشرين عامًا أحداثًا ثقافية بالغة التأثير في الثقافة العربية، إذ عقدت المؤسسة من خلالها إحدى عشرة دورة ثقافية، حملت كل دورة منها اسم شاعر من شعراء العربية الكبار، باستثناء الدورة الأخيرة التي حملت اسم «معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين»، احتفاء بهذا الحدث الفريد، وقد احتضنت هذه الدورات بلدان عربية وأجنبية مختلفة منها: القاهرة، والمغرب، والجزائر، ولبنان، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وإسبانيا، وفرنسا، والكويت، والدورة القادمة ستكون في البوسنة إن شاء الله.
وتتجاوز اهتمامات الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين حدود الشعر العمودي، إلى الشعر النبطي، الذي خصه بندوة أطلق عليها «ملتقى محمد بن لعبون»، حيث قدمت في هذا الملتقى (أكتوبر 1997) أوراق بحثية لباحثين أعلام من الخليج وخارجه، وقد طبعت هذه الأبحاث، وما صاحبها من تعليقات ومناقشات، في إصدارات خاصة، حملت اسم الملتقى نفسه.
وقد لقي هذا الملتقى صدًى واسعًا على المستويين الرسمي والشعبي، كما حظي بتغطية إعلامية واسعة على المستويين الخليجي والمحلي. ولأهمية هذا الملتقى فقد حظي برعاية خاصة من معالي النائب الأول رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح (صاحب السمو الأمير في الوقت الراهن).
كما خطا الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين خطوة فاقت كل التوقعات حين دعا إلى ملتقى سعدي الشيرازي في شيراز بإيران عام 2000م، حيث دعي إلى هذا الملتقى ما يقارب أكثر من خمسمائة شخصية عربية وإيرانية، من كبار المثقفين والشعراء والأدباء، وقد شمل هذا الملتقى برعاية فخامة رئيس الجمهورية الإيرانية في ذلك الوقت السيد محمد خاتمي.
وكان هذا الملتقى فرصة نادرة للانفتاح على الثقافة الإيرانية بعامة، والشعر الفارسي بخاصة - وذلك بعد انغلاق الثقافة الإيرانية على نفسها إثر قيام الثورة الإسلامية في إيران - ولا سيما إذا علمنا أن علاقات التأثير والتأثر بين الشعرين العربي والفارسي عميقة الجذور تمتد من الفتح الإسلامي لفارس إلى العصر الراهن.
ثم جاء في مايو عام 2005م ملتقى الكويت للشعر العربي في العراق، تحت رعاية سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ صباح الأحمد الصباح، بغية التواصل مع شعراء العراق، وأدبائه ومفكريه، بعد غياب قسري دام أكثر من عقد من الزمان فرضه النظام السابق على أدباء العراق وشعرائه.
وقد شارك في هذا الملتقى عدد كبير من مثقفي العراق وشعرائه، إلى جانب نخبة مختارة من مثقفي الدول العربية وشعرائها، قدمت فيه أوراق بحثية تناولت مسيرة الشعر العربي المعاصر في العراق، وقد تم طبع جميع هذه الأبحاث في إصدارات خاصة، قامت بها المؤسسة.
وقد سادت أجواء هذا المؤتمر روحًا من الصفاء والود، بين جميع المشاركين فيه، وكان لحضور رئيس المؤسسة وقائع الندوة كلها، ومشاركته المباشرة في وقائعها أثره البالغ في نفوس إخوتنا العراقيين المشاركين، الذين أحسوا بروح الدفء، والأخوة العميقة التي تربطهم بأشقائهم في الكويت.
ومع أن هذه الندوات، وما تمخض عنها من أبحاث، وإصدارات يعد إنجازًا ثقافيًا كبيرًا في حسابات الثقافة المعاصرة، فإن الأيام قد كشفت لنا أن طموح صاحبها قد تجاوز كل التوقعات إذ لم يكتف بالدورات وبالندوات والجوائز، بل راح يخطط لمشاريع ثقافية أكبر لتخدم الثقافة العربية من منظورها الواسع، فأنشأ مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي، التي تعد اليوم المكتبة الأولى في الوطن العربي، التي تضم جنباتها معظم نصوص الشعر العربي بمختلف عصوره، ومن ثم فلا عجب أن أصبحت مزارًا للباحثين العرب والأجانب من كل مكان.
وتمضي الأيام من عمر المؤسسة، وتحقق من الحضور الثقافي بإصداراتها وجوائزها المتعددة، في مجالات الشعر، والنقد، والتميز الأدبي ما يجعل من جوائزها السخية حلمًا يراود المبدعين في الثقافة العربية.
وكان بإمكان صاحب هذه المؤسسة، وهو يرى ما حققته مؤسسته من إنجازات، أن يصاب بالغرور، أو أن يتكئ على وسادة من حرير، وينظر إلى مؤسسته إعجابًا بما حققته، لكنه لم يفعل ذلك فطموحه غير المحدود ينافي الراحة، والاسترخاء، أو الغرور والعجب، فشد مئزره واستنفر من حوله في المؤسسة، لتحقيق مزيد من الإنجازات الثقافية، التي راح يخطط لها، ويباشرها بنفسه، بصور وأشكال مختلفة، فتحقق له بذلك إنشاء مركز الترجمة عام 2004م الذي راح يلاحق المنجزات العلمية في اللغات الأخرى، ويعمل على نقلها إلى العربية، وقد تم ترجمت ما يقارب عشرين كتابًا، من أهم الكتب العلمية المثيرة للجدل والاهتمام، وهذا جهد غير عادي يضاف إلى إنجازات هذا الرجل في مجال الثقافة العربية من منظورها الواسع.
يتميز الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين بروح التسامح والانفتاح على الثقافات الأخرى، إيماناً منه بالوحدة الإنسانية بشتى توجهاتها واختلاف ثقافاتها، متخذًا من النموذج الأند لسي في بناء الحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى أنموذجًا لإمكانية التعايش بين الثقافات المختلفة، ولذا نراه يسارع إلى إنشاء مركز حوار الحضارات، عام 2005م بعد تفشي ظاهرة العنف والإرهاب في العالم، ويعد هذا المركز واحدًا من أهم المشاريع التي استأثرت باهتمام الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين، إذ تم في إطاره، عقد ندوات عدة، دعي إليها كبار مثقفي العالم، نوقشت فيها القضايا المشتركة بين الثقافات المعاصرة، ودعت إلى إشاعة وبث روح التسامح والمودة بين الشعوب، ونبذ كل أشكال العنف والكراهية. ولم تقتصر حدود هذه الندوات على مقر المؤسسة فحسب بل تجاوزتها إلى دول أوروبية أخرى، كإسبانيا، التي تحظى باهتمام خاص من رئيس المؤسسة، للمكانة الحضارية للأندلس، وفرنسا، التي احتضنت بالأمس القريب «دورة شوقي ولامارتين» والدورة القادمة ستكون في البوسنة خريف عام 2010م.
ولعل اهتمام الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين بإقليم الأندلس على وجه التحديد يعود إلى بدايات زياراته السياحية الأولى إلى هذه المنطقة، حيث اكتشف جهل المرشدين السياحيين في عرض الصورة الحقيقية للحضارة العربية الإسلامية هناك، فتألم لذلك كثيرًا، وأخذ يقلب الأمر على أوجهه المختلفة، لتصحيح هذه الصورة الخاطئة عن الحضارة العربية فاهتدى إلى مشروع ثقافي يعقد بين المؤسسة وجامعة قرطبة، التي يتخرج فيها هؤلاء المرشدون السياحيون، فجاء إنشاء كرسي عبدالعزيز سعود البابطين للدراسات العربية، الذي احتضنته جامعة قرطبة، وسهلت له كل الوسائل والدعم الإداري والمكاني، والإنساني، فرصة علمية لدراسة اللغة العربية لمحبي الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس من جهة، ولتصحيح المفاهيم الخاطئة عن هذه الحضارة من جهة أخرى، وقد نجح هذا الكرسي، الذي حظي باهتمام رئيس الجامعة في ذلك الوقت، البروفيسور أخينيو دومينجيث فيلتشيس، في أن يقدم اللغة العربية لدارسيها وفق أرقى المناهج العلمية الحديثة، التي تساعد الطالب على إجادة اللغة العربية حديثًا وكتابة، كما أقام هذا الكرسي دورات متعددة للمرشدين السياحيين لتصحيح مفاهيمهم عن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، وأذكر في هذا السياق أن أول دورة تخرج فيها المرشدون السياحيون من تحت جناح هذا الكرسي، كانت في خريف عام 2005م، حيث أقامت الجامعة وقتها احتفالاً لهذه المناسبة أشادت فيها بإنجازات هذا الكرسي، وبصاحب المؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الذي هيأ للجامعة مثل هذا الكرسي العلمي، فدعت الجامعة الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين ليشهد أول ثمار غرسه، غير أن ظروفه وارتباطاته المسبقة مع جهات ثقافية ومالية أخرى حالت دون حضوره الشخصي هذا الاحتفال فأناب عنه كاتب هذه السطور، الذي شهد هذا الحفل، وألقى فيه بالنيابة كلمة رئيس المؤسسة التي حيا فيها رئيس الجامعة، والأساتذة المشرفين على هذا البرنامج، ثم تبع ذلك كلمة نائب رئيس الجامعة البروفيسور إنريكيه أغيلار، الذي شكر المؤسسة ورئيسها عبدالعزيز سعود البابطين على جهوده الرائعة في اقامة جسور التواصل العلمي والثقافي بين الجامعة والمؤسسة.
لقد كان مشهد الاحتفال مهيبًا، إذ دعيت إليه جميع وسائل الإعلام المختلفة وحضره، جمع كبير من أساتذة الجامعة، وغصت قاعة الجامعة بالمتخرجين الذين بلغ عددهم مائة وثمانية عشر متخرجًا من الجنسين، ومن مختلف الأعمار، جاءوا مع عائلاتهم ليشهدوا حفل تخرجهم في هذه الدورة الجديدة، التي أفادتهم كثيرًا وصححت الكثير من معلوماتهم حول الحضارة العربية، التي تزخر بها بلادهم، وقد أبدى الكثيرون من هؤلاء المتخرجين امتنانهم وشكرهم العميق للمؤسسة ولرئيسها الأستاذ عبدالعزيز البابطين، حتى إن بعضهم اندفع في نهاية الاحتفال إلى المنصة ليطلبوا من ممثل المؤسسة في هذا الاحتفال تبليغ شكرهم العميق إلى رئيس المؤسسة على إنشاء كرسي الدراسات العربية، بجامعة قرطبة، الذي أتاح لهم دخول مثل هذه الدورة، التي أهلتهم ليكونوا مرشدين سياحيين.
لقد استطاع كرسي عبدالعزيز سعود البابطين في جامعة قرطبة، وما حققه من إنجازات علمية في إشاعة تعليم اللغة العربية بين محبيها، من داخل الجامعة وخارجها، أن يثير غَيرة عدد من جامعات الأندلس، التي راحت تفاوض رئيس المؤسسة على تأسيس كراسي مماثلة للدراسات العربية، فاستجابت المؤسسة لهذه الرغبة وعقدت اتفاقيات ثقافية عدة لإنشاء كراسي جديدة للغة العربية في كل من جامعات غرناطة، وجامعة إشبيلية، وجامعة ملقا، وقد أخذت هذه الكراسي الجديدة طريقها إلى التنفيذ وبدأت تمارس مهامها التعليمية، في تدريس اللغة العربية وعقد الدورات التدريبية للمرشدين السياحيين، على مدار العام الأكاديمي، كما لم تهمل هذه الكراسي أهمية الندوات الثقافية، التي تعمق العلاقة بين العالم العربي وإسبانيا، فكان لها في كل هذه الجوانب جهد ملحوظ.
والمدهش أن حب الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين للحضارة الأ ندلسية لا يكاد يقف عند حدود معينة، ومن منطلق هذا الحب أعلن عن جائزة عالمية قيمتها ثلاثون ألف دولار، تعطى لأفضل دراسة أكاديمية تتناول إنجازات القرى الأندلسية في صناعة الحضارة العربية الإسلامية، تحت إشراف ورعاية جامعة قرطبة، وقد تقدم الكثيرون إلى هذه الجائزة وفازت بها العام الماضي (2009م)، الدكتورة آنا أرسيوغا عن بحثها «الوجود الإسلامي في مدينة آبلة من القرن الحادي عشر إلى القرن السادس عشر»، ومن المقرر أن تكون الجائزة في دورتها القادمة عام 2010م تحت رعاية وإشراف جامعة غرناطة.
وقد أدت جهود الأستاذ عبدالعزيز البابطين في تدريس اللغة العربية في جامعات الأندلس، وإقبال الدارسين من الطلاب وغيرهم على تعلمها إلى اتخاذ الحكومة الإسبانية قرارًا بجعل اللغة العربية لغة رسمية في مدارس إقليم الأندلس، وقد بدأت هذه المدارس بجدولة برامجها لتنفيذ هذا القرار، الذي سيوسع من نطاق العلاقات بين إسبانيا والعالم العربي، ولاشك أن هذا يعدّ إنجازًا كبيرًا يضاف إلى إنجازات هذا الرجل الفذ، الذي أبهر الكثيرين بنشاطه الدؤوب، وحيويته المتدفقة، وسعيه المتواصل إلى جعل الثقافة العربية المعاصرة في تواز مع الثقافات الأخري.
ولعل من أعزّ أماني الأستاذ عبدالعزيز البابطين أن يشهد اليوم الذي يؤدي فيه المسلمون في الأندلس الصلاة في جامعها الكبير الذي ظل مغلقًا في وجوههم منذ خروج المسلمين من الأندلس، منذ عدة قرون، وقد اغتنم فرصة انعقاد دورة ابن زيدون في قرطبة، في الرابع من أكتوبر 2004م، تحت رعاية جلالة ملك إسبانيا خوان كارلوس، ففاتح المسؤولين في إقليم الأندلس أن يسمحوا للمسلمين المشاركين في هذه الدورة أن يقيموا صلاة الجمعة في جامع قرطبة، بيد أن الكنيسة عارضت هذه الفكرة، لكن حلم الأستاذ عبدالعزيز حول هذا الموضوع ظل حيّاً في ذاكرته، يتذكره في كل مناسبة تسنح له، وقد شاهد كاتب هذه السطور مشهدًا نبيلاً للأستاذ عبدالعزيز البابطين في هذا الموضوع لن ينساه أبدًا، فقبل فترة قصيرة طلبت إحدى المؤسسات الثقافية في إسبانيا مقابلة رئيس المؤسسة الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين، لتعرض عليه مشروعها الثقافي الجديد في الأندلس.
رحب الأستاذ عبدالعزيز بالفكرة، وحدد موعدًا للقاء الوفد، وجاء الوفد في الوقت المحدد، وبعد اللقاءات الجانبية المعتادة في هذا الشأن، بدأ الوفد بعرض أبعاد المشروع الجديد من خلال الخرائط والصور التي يحملها معه، ويتمثل هذا المشروع في إقامة مركز - ترعاه ملكة إسبانيا، ومؤسسات إسبانية أخرى - يقوم بإعادة صياغة مفاهيم جديدة عن كل ما يتعلق بالحضارة العربية بالأندلس، وتقديمها للأجيال القادمة كما أرادها لها بناتها الأُول أن تكون، لتعكس الصورة الحضارية الرائعة التي عاشها أبناء هذه المنطقة في العصور الوسطى من مسلمين ونصارى ويهود، حتى أصبحوا قبلة العالم في التقدم والحضارة.
وذكروا في حديثهم أنهم لم يأتوا ليطلبوا مالاً، وإنما يطلبون تعضيد المؤسسة ومؤازرتها لمساعيهم، في أن تكون من رعاة هذا المشروع الجديد تقديرًا منهم للدور الكبير الذي لعبته المؤسسة في خدمة هذه الحضارة، وقد رحب الأستاذ عبدالعزيز بهذا المشروع، واعتبره نقلة نوعية في خدمة الحضارة العربية، وبخاصة بعد أن تعرضت هذه الحضارة للتشويه، وسوء الفهم ممن لم يقرأوا التاريخ الأندلسي كما دونه بناته.
وهنا اغتنم الأستاذ عبدالعزيز البابطين الفرصة وقال لأعضاء الوفد مادمنا نتكلم عن التسامح الديني، والتآلف الإنساني الذي عاشه سكان الأندلس، ألا تساعدوننا في أن تمنحنا الكنيسة مساحة من جامع قرطبة بقدر المساحة التي أقامتها لأتباعها في جامع قرطبة، حتى يتمكن المسلمون من أن يؤدوا شعائر دينهم أسوة بإخوتهم النصارى؟ ثم أردف قائلاً إني أؤكد لكم أنني سأتحمل كل التكاليف المترتبة على ذلك ولو بلغت مليون دولار. كانت كلماته في هذا الشأن مفاجأة للوفد، ولم يكن الوفد يتوقع أن يطرح عليه مثل هذا التساؤل، إذ بدا الحرج ظاهرًا على وجوه أعضائه، واعتذروا بأنه ليس من صلاحياتهم الخوض في مثل هذا الموضوع، بوصفه من اختصاص الحكومة الإقليمية في الأندلس، وهنا علت الابتسامة وجه الأستاذ عبدالعزيز وقال في ثقة عالية في النفس «حسنًا سنواصل المسعى في هذا الشأن، فلعل الغد يأتي بجديد»، ثم أردف قائلاً «ما رأيكم إذًا في أن تساعدونا - بحسبكم مؤسسة ثقافية تعنى بالشأن الأندلسي - في الحصول على نسخ مصورة من المخطوطات العربية الموجودة، في المكتبات الإسبانية»، وهنا قالت رئيسة الوفد بإمكانكم الحصول على ما تريدون من صور للمخطوطات والوثائق التاريخية العربية من خلال الاتصال المباشر مع هذه المكتبات، فليس هناك قيود أو محاذير تمنع من تزويد المراكز الثقافية، والباحثين بما يحتاجون إليه من وثائق أو معلومات في الأدب والتاريخ.
وليس غريبًا أن تشغل المخطوطات العربية في الأندلس ذهن الأستاذ عبدالعزيز البابطين إذ إن الكثير من الشعر الأندلسي يحتاج إلى قراءة جديدة، ونشر ما لم ينشر من قبل، أو أسيء نشره، وهذا ما دفعه عام 2007 إلى إنشاء «مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية»، الذي أصدر حتى الآن تسعة دواوين شعرية لشعراء من عصور مختلفة، من أبرزها «ديوان الشعر الصقلي»، و«شعراء أندلسيون مجهولون»، و«ديوان ابن شرف القيرواني» وغير ذلك.
إن إنجازات هذا الرجل، وإنجازات مؤسسته كبيرة، على نحو يضيق المقام عن تعدادها أو حصرها، وهي معروفة لكل المهتمين بالثقافة العربية، لكنّ المجهول هنا أو شبه المجهول في مسيرة هذا الرجل، هو إنجازاته الإنسانية المتنوعة في خدمة الجماعة البشرية، في العالمين العربي والإسلامي، التي يحيطها بالكتمان، ولا يبدها لأحد إلا في حالة المشورة وطلب الرأي.
لقد لقيت جهود الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية صدى واسعًا في العالمين العربي والإسلامي، فحظي بتكريم المؤسسات الثقافية والأكاديمية، بمنحه شهادات الدكتوراه الفخرية من عدة جامعات عربية وإسلامية، فضلاً عن أوسمة متعددة من رؤساء بعض الدول العربية والإسلامية، والأوروبية، ناهيك عن الجوائز المتعددة على مستوى الدول أو المؤسسات الثقافية، مما يعكس مدى عمق اهتمام هذه الدول والمؤسسات الثقافية بأعمال وجهود هذا الرجل في خدمة الثقافة العربية.
حيا الله الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين، ابن الكويت البار، وأعانه في مسعاه ووفقه إلى كل خير، وجزاه أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة على صنيعه في خدمة الثقافة العربية بعامة، واللغة العربية بخاصة.
أكاديمي كويتي