Culture Magazine Thursday  12/01/2012 G Issue 360
فضاءات
الخميس 18 ,صفر 1433   العدد  360
 
قراءة في مجموعة فهد الخليوي (مساء مختلف)
د. محمد عبد الرحمن يونس

 

البحث عن المختلف والمتباين والمتغاير عن بنية المجتمعات العربية المتخلفة، هو الهاجس الأساس الذي يعزف عليه ساردو مجموعة (مساء مختلف) للقاص «فهد الخليوي» الذي يُعدّ من أهمّ كتاب القصة القصيرة المعاصرين في السعودية. لقد رأى كلّ ما هو متخلّف، من الماء إلى الماء، ومن الصحراء إلى الصحراء، ورأى أنّ بنى التخلف هي التي تحاصر المجتمعات العربية المعاصرة وتضرب تركيبتها الثقافية والاجتماعيّة.

يدور الحدث القصصي، وسرده، وحواره، وشخوصه، داخل فضاءين قصصيين، الداخل والخارج، وهذان الفضاءان محكومان بثنائيات ضديّة متعددة ومتناميّة، فضاء الداخل وهو الفضاء الذي يعايشه القص بأشخاصه المستلبين، وفضاء الخارج الذي تتحقق عبره أماني هؤلاء الشخوص وأحلامهم بالحب والحرية.

في القصة الموسومة ب(قناعات) تبرز ثنائيات القديم والجديد، القديم البالي والجديد الأكثر رحابة وجمالا، ويشير الخطاب القصصي إلى أنّ زوجين شابين كانا يملكان منزلا قديما ورثه الزوج عن أبيه، ثم أرادا تجديد بنائه، فالمنزل القديم في بنيته الإشاريّة يشير إلى بعض العادات البالية المتأصلة، بفضاءاتها المغلقة، أمّا البناء الجديد للمنزل فهو يشكل الفضاء الأكثر انفتاحا (كان المنزل يضمّ مجموعة من الغرف الضيقة ذات الأسقف المنخفضة التي بنيت عشوائيا في عهد أبيه. تحولت معظم الغرف المتلاصقة في المنزل إلى مكان كبير أصبح في ما بعد صالونا فسيحا ذا سقف مرتفع ونوافذ واسعة، تسمح بالمزيد من تسرب الهواء وأشعة الشمس). ص 19.

إنّ البحث عن الحرية، مطلب حضاري معرفي تطمح إليه ذات الإنسان العربي الذي رأى قيم الاستبداد القديمة، وقيم الانغلاق القديمة المتعصبة، كيف تنخر حياته وأحلامه وتفكيره، وها هو يطمح إلى فضاءات أكثر جمالاً، وأفق معرفي أكثر اتساعا، وقيم جديدة أكثر تسامحا. ويمكن أن يشير إلى الفكرة السابقة المقطع السردي الآتي: (أضيفت بعد انتهاء التشطيبات لمسات جمالية داخل الصالون، لوحات تشكيلية علقت على الجدران، إضاءة خافتة، مخارج صوتية لموسيقى منوعة، آلة عرض سينمائية ومكتبة صغيرة بجوارها باقة ورد بألوان مختلفة.). ص 19. فالخطاب القصصي الطامح إلى التباين والتغاير والاختلاف، استعار لهذه الحمولة الشعورية مفردات محدّدة تشير إلى هذه الحمولة، مثل: (لمسات جمالية)، و(لوحات تشكيلية)، و(مخارج صوتية لموسيقى منوّعة).

إن ّ هذه المفردات البسيطة والسهلة التي لا تكلف فيها، ولا زخرفة، ولا صناعة لفظية هي التي ستبني بنية السرد اللغوية من أول المجموعة إلى آخرها، ولذا سيجد قارئ هذه المجموعة أنّ جميع مفرداتها مألوفة، ولا غرابة فيها، ولا صعوبة، وهذه إحدى مزايا القصّ عند فهد الخليوي، في مجموعته السابقة: (رياح وأجراس)، وها هو يكرّس هذه الميزة نفسها في مجموعته الجديدة: (مساء مختلف).

إن المدن الضيقة المتزمتة، ذات العادات البالية لا تثير إلا الخوف والقلق، والشعور بعدم الأمان والطمأنينة، وهذا ما يبدو في القصة الموسومة ب (قلق)، فالبطل الفرد في هذه القصة معزول عن مدينته، وهو وحيد كئيب مستكين، داخل جوّ عام غائر في الاستكانة واليأس، ويشير الخطاب السردي إلى ذلك من خلال المقطع التالي: (تقود سيارتك، تجوب شوارع المدينة، تحدّق عميقا في تلك الاستكانة الغائرة في وجوه العابرين). ص 23.

ولا يجد هذا البطل اليائس مفرّا من استكانة نفسه، واستكانة مدينته إلاّ بالبحث عن فضاء خارجي آخر، يحقق فيه أبسط درجات إنسانيته، فيتوجّه إلى الشاطئ، باعتباره ملاذا للروح المتعبة، حيث يفرد همومه وأحلامه أمام زرقة البحر، وأمواجه الصاخبة التي ترفض نمطية استكانة المدن، واستكانة سكانها. ويشير الخطاب القصصي إلى ذلك قائلا: (يرمي بك المسير إلى الشاطئ، تقف بخشوع أمام زرقة البحر وجلال أمواجه الصاخبة، تشعر وكأن كيانك المكبل بعتمته يتحرر ويمعن بالامتزاج في فضاء مشرق ورحب لا حدود له). ص 23.

من الملاحظ في قصص فهد الخليوي، وبشكل عام، وفي مجموعتيه القصصيتين: (رياح وأجراس)، و(مساء مختلف)، أنّ المدينة تصبح في مجهر أبطال قصصه جثة هامدة، مدينة مكلسة بالغبار والخوف والتخلف، فمنازلها برغم لمعانها وديكوراتها المصطنعة ليست إلاّ أكواخا قديمة تحتوي على حجرات ضيقة، وسقوف واطئة، وجدران رطبة على وشك الانهيار.

هذه الأيديولوجيا المعادية للمدينة في قصص فهد الخليوي هي إيديولوجيا فاضحة معريّة لمجمل علاقات الاستلاب والوحشة، السائدة في هذه المدينة، يصف البطل مدينته في قصة (قلق) قائلاً: (تعود إلى مدينتك الكئيبة.. إلى كوخك القديم، تدخل لغرفتك الضيقة ذات السقف المنخفض والجدران الرطبة، المدينة تبدو كلها غارقة في الرطوبة والعتمة، تحبو في أزقتها المظلمة .. مخلوقات هرمة وهشّة تقترب من حافة الانهيار، تشعر وكأن الزمن يمرّ فوق هذا الركام مسرعا نحو تخوم مضيئة). ص 23.

إنّ فهد الخليوي -من خلال خطابه القصصي- يقدّم سرداً مشهدياً، يعكس أوجاع مجتمعه، وأوجاع مدنه، ومن خلال هذا المشهد يبثّ رؤاه الشفيفة, وأطروحاته المعرفيّة، ويشحن الوعي الإنساني لأبطال نصوصه ويدفعهم لكي يعبّروا عمّا بنفوسهم من رؤى وأحلام وطموحات لتغيير أوجاع هذا المجتمع، فالواقع رثّ بائس، وحركة الفعل فيه ثابتة، غير متنامية ومجدية.

حلما جميلا، يبدد الأبطال من خلاله وحشتهم واغترابهم واستلابهم الإنساني، هذا إذا عرفنا أن لقاء المرأة والطموح إلى محادثتها وحوارها حوارا أخلاقيا ومعرفيا وإنسانيا، يُعدّ من أكبر المحرمات التي تعاقب عليه قوانين المدن المغلقة عقوبات لا رحمة فيها, ففي قصة (مساء مختلف)، يتعرّف بطل القصة بفتاة جميلة، ويشكّل لها أجمل اللوحات الجمالية، يصفها قائلاً: (بدت أمامه ملاكا ناعما، ونجمة مضيئة في سماء صافية، شعر بدفء غامر ينساب إلى أعماقه ويسري بكلّ كيانه. نظرت إليه بعينين غارقتين بسحر الأنوثة، وهمست بصوت شجيّ: إذا كنت تحبني وتنوي الهجرة، تقدّم إلى أهلي وخذني معك). ص 27.

ولا ينسى بطل القصة، وهو في أشدّ حالاته الحالمة من أن يشير إلى الكبت الذي يجثم على صدره، فهو جالس مع الفتاة، وفي أعلى حالات بهجته وألقه، غير أنه يشعر بضغط عقاله على رأسه، فالعقال الذي يضعه الرجل على رأسه -في المفهوم الشعبي- يعقل الفرد، ويضبط سلوكه، ويزيده اتزانا وتقيدا بأعراف مجتمعه وتقاليده، غير أنّ هذا العقال يصبح في الخطاب القصصي عائقا عن تحقيق أحلامه، ويجثم صخرة قاسية تقف في وجه طموحه، وأفق حريته. يقول عن هذا العقال: ((تحسس عقاله وجده جاثما فوق (غترته) يحاصر رأسه كصخرة ثقيلة). ص 27.

إن العقال في البنية الإشارية، التي أراد السارد أن يشير إليها، لا تتجلى مهمته في ضبط العقل، وسلوكيات الأفراد، والدفع بها إلى مزيد من الاتزان العقلاني، والمنطقي، والعاطفي، بل هو جزء أساس من تركيبة المدن المتزمتة المغلقة، وهو علامة مهمّة من علامات الضبط الجمعي بأعرافه العشائرية، وعلامة مهمّة من علامات الحدّ من الحريات العقلية والفكرية، والأحلام الجمعيّة الطامحة إلى التغيير.يعبر بطل القصة في سطورها الأخيرة عن مسائه المختلف عن مساءات المدينة (المقفلة بمزاليج الخوف والترصد) وما صاحب ذلك المساء من تألق وقلق وخوف إذ يقول: (كان مساء أليفا ودافئا، مميزا بنكهته وألقه عن باقي الأمسيات الباهتة في هذه المدينة المقفلة بمزاليج الخوف والترصد. تدفق حضورها في ذلك المساء، وانهمر كعذوبة الأمطار في سماء روحه ورفيف وجدانه. سلك أقصر الطرق لإيصالها بسرعة عابرا تلك الشوارع المخيفة بصمتها وظلامها، ثم عاد وحيدا وعطرها يصطخب بين يديه).

هذه أهم البنى الفكرية والإبداعية التي جسدها الخطاب القصصي، وأشار إليها القاص فهد الخليوي في مجموعته (مساء مختلف), على أنّ هناك بنيات أخرى مهمة لا تستطيع قراءة قصيرة كهذه أن تبرزها مجتمعة.

***

* مساء مختلف، فهد الخليوي، قصص قصيرة، منشورات النادي الأدبي بالرياض، الطبعة الأولى، 1432هـ/ 2011م.

باحث وقاص وروائي، وأستاذ جامعي

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة