من بين سائر.. العلوم.. علم الحديث ولا سيما: أحوال الرواة، الجرح والتعديل، طبقات السند، العلل وخاصة منها: الإعضال، وعلم اللغة والنحو هذه «علوم ثلاثة» ثقلت على الذين ليس لهم حظ وافر من جودة الذهن وصفاء الآلة وقوة استنطاق النص واستيعاب المراد، ولذلك في هذه.. العلوم.. لا ينفع فيها: الادعاء أو التقمص ومن طبيعته العجلة أو استبهال النتيجة أو أنه يريد تصيد الزلل أو هو يميل كل الميل إلى حب الذات وتنميق «الأنا» بكل سبيل يكون أو لا يكون.
وإذا ما عدت طراً إلى.. علم اللغة.. بخاصة فإنها تعتمد على سلامة العقل من كل خلل وزيغ لأنها في ألفاظها ودلالتها اللفظية على المعاني كل ذلك يحتاج إلى: عمق النظر بصدق وافٍ مع تحمل عدم الكلال.
ولهذا فإن السير.. وقراءة أسفار المصنفين المبدعين وتلمس بالضرورة حسن الخلق القويم وشد الانتباه كل ذلك.. الحق يقال.. يوحي بضرورة تحصيل: (الموهبة المكتسبة) إذا انعدمت (الموهبة الجبلية) التي لعلها تشح اليوم بنفسها إذ هي ترى تطاحن كثرة الكتابة وتكرارها وحب الذات وادعاء الإضافة. تشح بنفسها الشيح كله لا بعضه.
ولك أيها الكاتب فيها أو عنها أو النحو كذلك أو أنت أيها المصنف أو أنت أيها المعلم لك أن تجمع ما كتبته خلال (3 أشهر فقط) ثم أنت تجرد من أنك أنت صانع ما كتبت أو ألفت أو علمت بضابط صفاء الذات وتجرد العقل وسعة الاطلاع وصدق التوجه.
لا جرم تنكث الأرض بعود المعاودة ثم أنت تعاود نكثها مرة ومرة وثالثة مثلهما سوف ترى أنك أسفت لا من باب إمكان حصول الخطأ فإنه ما من مؤلف ألف كتاباً، أو كتب مقالة ثم رجع بعد: يقرأ ما ألف أو رجع يقرأ ما كتب إلا وقال: ليتني فعلت: كذا.. أو كذا.. أو غيرت.. أو زدت.. أو أنقصت.
لكن من باب: حب الحصول على النتيجة.. وحب بيان أنه مطلع ويعاد إليه.
وهذا أمر مهم لأنها حالة نفسية إكلينيكية قد لا يدركها من هو: واقع فيها أو هي: واقعة فيه. وهذا سر أكشفه لأول مرة، وهذا داء مرير قد جعل الكتابة في (حوض اللغة.. والنحو) يحتاج إلى لازم من لوازم الإخلاص الحر المتين ذلك الإخلاص الدافع بالضرورة إلى توليد الموهبة وتحريك القدرات الفذة.
حقيقة لا يقبل منها (الوضع) شأنا أنك لو نظرت عبر ما خطه اليراع يراع:
ابن معط: (أو ابن مالك)، أو ابن منظور، بل لو نظرت بواسع نظر مكين ما خطه قلم مصطفى بن صادق الرافعي، أو بخيت المطيعي، أو أحمد ومحمود شاكر، أو: فؤاد زكين، إلى عهد قريب هو إلى الأمس اقرب لوجدت أن ما يكتب (اليوم)، إنما هو: نشر نشار إلا ما شاء الله تعالى، جرب فقط جرب بعيداً عن ثقيل اللغة وعمق مشاهدها ووعورة مفرداتها أن تقرأ: (وحي القلم) أو تقرأ: تحقيق (إحسان بن عباس)، لكتاب ذائع الصيت هو: طبقات ابن سعد الموسوم: (بالطبقات الكبرى) لابن سعد فأنت واجد ولا محيص: ثقل العبارات (جودة النسق) جمال السبك الطردي، شواهد الدلالات بنص قائم فهو معلوم.
وواجد إلى هذا البعد عن الإنشاء، ومجرد السرد، وتهويل الذات، ومحاولة الاستطراد.
لا تذهب قارئاً: لسيبويه، أو ابن جني، أو الأنصاري، أو الجوهري، أو إبن علان، أو الكسائي.
لا تفعل وإن كان هذا بذاته مهماً لكن حاول قراءة بعض ما كتبه من ذكرت آنفاً أو ما ذكرته: هونكة) في كتابها (شمس الإسلام تسطع على الغرب) سوف تجدني أخط الخط باليمين أننا (اليوم) في الجامعات والهيئات العلمية والمراكز المتخصصة والمعاهد المتهمة بمثل هذا وإن من يكتب (اليوم) زوايا أو مقالات أو يلقي محاضرة الكثير منه لو تأملته لوجدته يخلو الخلو كله من الإضافات التي لا بد منها ولا بد في مثل هذا الحين.
إنني على.. ولعلي لا أعدو الحقيقة أن الحال الآن أشد إلحاحاً من أي وقت مضى أن نبدأ جادين في بعث كوامن الموهبة: العلمية واللغوية والنحوية وذلك بضرورة أن نلح على النفس ونبعدها عن: الإنشائيات والحرص على دوام الكتابة هكذا استطراداً وتكراراً وذاتية. إنني أجزم أنني ألامس في بعثي كوامن العقل النائم أن يصحو أن يفيق أن يسير سيراً نحو (معارج) إعادة التاريخ من جديد، إنك حينما تتابع على الأقل ثلاثة كتاب ممن يكتبون في نواح علمية حديثية أو فقهية أو اجتماعية أو لغوية أو نحوية أو قضائية أو إدارية، وتتأمل من كل واحد منهم «ثلاثين مقالاً» ثم أنت تتدبر تلك الكتابات تجد ابن لحيدان لم قد رسم الطريق.
إنني.. هنا.. ومن قبل، وهذا كتابي شاهد «تأصيل البحوث العلمية» و»النقد العلمي» أصر على ضرورة عدم العجلة وضرورة الإضافات المركزة في مجال العلم واللغة وما سواهما.
إنني أُشفق على نفسي وبين يدي الآن «17» كتاباً معاصراً وتسع وعشرون مقالة وخمسة بحوث للدكتوراه أن أجد مثل هذه الملاحظات وكما يلي:
1- تسعة أحاديث ضعيفة.
2- (12) موطناً إشادة بالنفس.
3- (31) خطأ إملائياً.
4- مبالغة في الثناء كبيرة.
5- خلط بين: النقد والدراسة.
6- تكرار بألفاظ ذكية مختلفة.
7- جرأة في التجريح.. وتسفيه الآخر.
8- الإصرار على الرأي الأحادي مع تحدٍ ظاهر.
9- قوة الكتابة العاطفية دون فطنة ووعي.
إنني أُلزم (القارئ العزيز) أن يُلزم نفسه يلزمها.. فقط.. أن يجمع «عشرين مقالاً» لكاتب واحد فقط ثم هو يتدبرها ثم يُعيد ذلك مرتين أو ثلاث مرات.
الحق أنه طائل مقامه في اللوم اللوم كله على وقت قضاه وكان يكفيه ساعة من ليل أو ساعة من نهار ليقرأ الثلاثين مقالاً عبر ثلاث مقالات.
إذاً.. الحال.. شاهدة كثيراً على أننا نعاني من خلل وظيفي في: الآلة، والإنتاج، دون ريب. إننا شهود عصر وشهود ظرف على أننا يحسن بنا جدية الطرح الجديد الإضافي غير المسبوق. وهذا كامن في المتناول إذا نحن قمنا بعلمية عقلية جادة مركزة صامدة لا عملية عاطفية.. وفرق بين العلم والعمل ما لم يقترنا معاً هناك تنبعث الموهبة على جادة الصواب كما انبعثت.. حيناً من الدهر.. فكان التجديد الجليل الذي كثير (اليوم) عالة عليه.
الرياض