يمسك القاص والروائي محمد المنصور الشقحاء بالكثير من الحكايات الإنسانية المعبرة، تلك التي ظلت في قاموس واسع، وشكلت بنية تراكمية من ذكريات معمقة، وصور معبرة ترتسم في مخيلته منذ أمد حتى جاء هذا اليوم الذي سطر فيه للقارئ بعض من شذرات ذلك المخزون الكتابي الذي أنجزه في حيز فني عرف بفن «القصة القصيرة جدا» فقد يثبت للقارئ أن القاص الشقحاء قادر على معالجة الفن القصصي والتحول معه، كما يؤكد فرضية أن الحكاية ربما تصبح ومضة فكر تستحق التدوين، وهذا ما امتزج في تجربته في هذه المجموعة التي وسمها بعنوان «النسخة الأولى».
يسعى الكاتب الشقحاء منذ القصة الأولى «النسخة» إلى استنباط فكرة الحكاية واصلها دون الخوض في تفاصيلها المملة، فهو الذي أوجد في النصوص معادلة «الفكرة /الومضة» لكي يتسنى له كتابة تاريخ هذه الحكايات بلا إطناب أو إطالة أو ترهل.
يستشعر القارئ لنصوص هذه المجموعة أنه في غمرة حضور الفكرة الأولى للحكاية حينما يستنبطها من رحم المنسي من حكايات الزمن على نحو قصص «المدرج» و»العجوز» و»بوح» ففي الأولى رصد مباشر لحالة اللعبة ومكانها وزمان حضورها وموت البطل وغفوة طفله، وفي الثانية يمسك القارئ بخيط من التاريخ الذي يشبه الحبل السري الممتد بين البطل ووجه الاجتماعي الآخر.
أما قصة «بوح» فقد ندت ببعد تراجيدي أليم، يعكس قضية مهمة في مجتمعنا، حينما تختلط الأمور بين الناس، فمنهم من هو بقناع كحالة المرأة البطلة في النص ومنهم محنكون بأغطية وسواتر وهمية لا يمكن التعرف على نوازعها أو أسباب عبثها على نحو الشخصية الأخرى في هذا النص الذي اشتكت فيها المرأة للراوي من عبثه ومراوغته وفي النهايات الأليمة حينما تلاشى كغبار هارب عن وعد كان يضربه لها يدعي فيه أنه سيتوج هذه اللقاءات باستقرار أبدي.
حيزا الزمان والمكان ترددا بشكل متناغم في كل نص في هذه المجموعة، فقد تجد الزمان حاضرا بقوة لا لبس فيه على نحو ما ورد في قصة» صفاء» وتجده موارباً بعيدا على نحو حضوره في قصة»التعب» حينما جاء حاضناً لفكرة عودة الشيخ إلى صباه والطفل حينما يسبق زمنه ويبيت في فراش الجد، أما الزمن المتطاول فإنه يرد في قصة «الدفء» حينما يشير إلى السماء حينما يصف عمر ابنه الراحل إلى دار البقاء.
أما المكان فإنه ذا إطار واحد يستشعر فيه الكاتب الشقحاء أنه مغلق وغير رحب لكي يمسك بحكاية الإنسان وفنيات القصة القصيرة جداً حيث يبرع في توليفة الحكاية على حضور المكان حتى وإن كان في ظهور مباشر محدود باب وشارع وملاعب أطفال ومقعد، وإن لم يخف ولعه بالرمز والإيحاء لأماكن بعيدة تسترجعها الذاكرة على نحو قصة «غفوة» حينما يستعيد فضاء الملعب الرياضي وهو متراخ في مقعده بخدر نعاس فالمكان هنا جاء استحضار لا بد منه من أجل الإيجاز وصنع مقاربة حكائية ينحت منها الشقحاء بعداً فنياً لقصة الومضة التي تذكره بأن الحياة وفرصها قد تأتي وتغادر اما بغفوة «إغفاءة» أو بما هو أسرع منها على نحو إغماضة العين وانتباهها.
شخوص القصص في هذه المجموعة محددو العدد ولهم أدوارهم الخاصة بهم، فكل شخصية لها تحضر في النص تكون مباشرة وواضحة لتدخل مع الراوي في حديث مقتضب، تمنحه فرصة الحديث عنها حينما تطل بطرف الحكاية الشيقة فلا يجد بداً من الحديث عنها ولا سيما ماله علاقة بالإنسان ومعاني الحياة.
وكثيراً ما انعكست التفاصيل الحميمة والخبايا المثيرة حينما يوعز الشخوص للراوي بأن وراء الأكمة ما وراءها على نحو ما يعصف بالأفق من رؤى الجمال وملامسات الحس الفطري لكل قصة وحكاية سكنت قلب الرجل والمرأة على حد سواء.
كما أن الكاتب الشقحاء وازن في هذه النصوص بين عنصر وأخر في حكاية الإنسان فمرة يسرد الراوي معاناة الرجل وأخرى تسترجع المرأة الكثير من الصور والمعاناة والمواقف حتى حبك لنا هذه الإضمامة المميزة من طرف وملح ومقولات كان رابطها الأساسي هو الومض والإيجاز ليخرج القارئ بحصيلة جيدة من حكاية الإنسان في عالم يتغير ويضطرب ويتحول لكن الحكاية وراويه يقتسمون أمانة الطرح وعمق التجربة ونجاعة الفكرة في أي حكاية.
***
إشارة:
النسخة الأولى (قصص قصيرة جداً)
محمد المنصور الشقحاء
من إصدارات أدبي الطائف (ط1) لعام 1432هـ - 2011م
تقع المجموعة في نحو (64صفحة) من القطع المتوسط