أولاً: الاضطهاد القضائي
مقدمة ضرورية: نقدم هنا بحثاً موجزاً عن الصراع بين نظرية التطور الداروينية وخصمها الجديد والعنيد، أي فكرة أو نظرية «التصميم الذكي». وسوف نستعرض في الجزء الأول البعد القضائي في الصراع، وفي الجزء الثاني سنستعرض البعد الأكاديمي. وطبعاً، لله المثل الأعلى، ونستغفر الله من أي كلمات لا تليق بالخالق - جل وعلا - في سياق هذا البحث؛ لأن الهدف هنا نقل هذه المعركة الفكرية الكبرى للقارئ العربي المسلم، خاصة التطور الفكري الهائل في أسلوب المواجهة المتمثل في ابتكار نظرية «التصميم الذكي» لمواجهة نظرية التطور الداروينية، أي مواجهة الفكر بالفكر وليس بالتكفير، وهو تطور معرفي شديد الأهمية في قضية تهم جميع المؤمنين بالأديان السماوية؛ وبالتالي بقصة الخلق الواردة في الكتب المقدسة.
الدستور الأمريكي
في البداية أجد من المناسب أن نذكّر القارئ بنص التعديل الأول للدستور الأمريكي الذي أصدره الكونغرس مع 9 تعديلات أخرى، سميت جميعاً، أي التعديلات العشر، ب «وثيقة الحقوق»، وتمت المصادقة عليها في 15 كانون الأول/ ديسمبر 1791. ومن المعروف والمشهور أن التعديل الأول يتعلق بحماية الحريات، خاصة حرية التعبير. ويتكون التعديل الأول من عبارة واحدة، لكنها مهمة جداً؛ حيث تنص على أنه: «لا يشرع الكونغرس أي قانون يؤدّي إلى دعم ممارسة أي دين، أو تشريع أي قانون يؤدّي إلى منع ممارسة أي دين، أو تشريع أي قانون يؤدّي إلى تعطيل حرية الكلام أو النشر الصحفي أو حق الناس في إقامة تجمعات سلمية أو إرسالهم عرائض إلى الحكومة تطالبها برفع الظلم». ونترك تفسير هذا النص الواضح للقارئ، ونترك له حرية استنتاج وجود اضطهاد من عدمه في قضية أنصار نظرية «التصميم الذكي».
التصميم الذكي
Intelligent Design
منذ أن قدّم عَالمُ الحيوانات والنباتات الأشهر تشارلز داروين (1809-1882) للبشرية «نظرية التطور» في كتابه التاريخي «أصل الأنواع»، عام 1859، والعالم لم يعد كما هو. أحدث كتاب «أصل الأنواع» جدلاً عندما نُشر، لكنه لم يُؤخذ بجدّية إلا بعد حين.
ولا شك أن نظرية التطور من خلال الاختيار الطبيعي غيّرت التفكير العلمي جِذْرياً في مجالات كثيرة، لعل أهمها عِلمَا البيولوجي والأنثروبيولوجي. ولكن فكرة عدم وجود خط فاصل واضح بين البشر والحيوانات في نظرية التطور جعلت من داروين - إلى الأبد - رمزاً لتحطيم المعتقدات الدينيّة؛ لأنه - حسَب وجهة النظر هذه - أزال امتياز الإنسانيّة في هذا الكون. وداروين يعتقد أن الحياة لغز من الألغاز؛ فهو لا يؤمن بالخلق ولا بالصدفة، إنه «لا أدريٌّ» Agnostic.
وقد استمر الصراع حول هذه النظرية بين المتدينين والعلمانيين عشراتِ السنين، خاصة في مجال التعليم. ويبرز الصراع في العصر الحديث بصورة جليّة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث جرت العديد من المواجهات القضائيّة، كان الحسم فيها لصالح أنصار داروين في الغالبيّة العظمى من الحالات. ولعل أبرز تحدٍّ لنظرية التطور في الولايات المتحدة حالياً يأتي من نظرية «التصميم الذكي» Intelligent Design.
ونظرية «التصميم الذكي»، كما وضعها أنصارها، تقوم - باختصار شديد - على أن الحياة أعقد بكثير من أن تكون قد «تطورت» بمفردها كما تقول نظرية التطور الداروينية؛ ولذلك فهي ترى أن هناك «سبباً ذكياً» وراء تصميم جميع الكائنات. لقد تمت صياغة نظرية «التصميم الذكي» بلغة ومصطلحات علمانيّة بارعة وحذرة تماماً، وتم تجنب تحديد هُوية المصمم الذكي لأسباب مرحليّة تكتيكيّة قد تطول! (ولله المثل الأعلى طبعاً ونستغفر الله من أي تشبيه لا يليق به سبحانه).
وأنصار نظرية «التصميم الذكي» هم أكاديميون مؤمنون، لكنهم يريدون إثبات وجود الله بالطرق العلميّة كما يقولون. إلا أنهم لا يؤمنون بحَرْفيّة تعاليم الكنيسة خاصة حول عمر الأرض. وينتسب معظم أنصار «التصميم الذكي» إلى معهد ديسكفري الشهير Discovery Institute، الذي يعتبر بمنزلة خزان فكر مسيحي يميني - بروتستانتي إنجيلي تحديداً - يقف وراء هذه النظرية ويدعمها بقوّة. ويُصر دعاة نظرية التصميم الذكي بقوّة على أنها «نظرية علميّة» مثل، بل أكثر من، باقي النظريات عن أصل الكون والحياة. حيث يؤكد الدكتور ويليام ديمبسكي (وهو أستاذ فلسفة، وعالم رياضيات، وأحد أهم أنصار فكرة التصميم الذكي، وعضو بارز في معهد ديسكفري) أن «التصميم الذكي هو برنامج بحث علمي جاد يستقصي نتائج الأسباب الذكية. أو بعبارة أخرى: التصميم الذكي يدرس آثار الأسباب الذكية ذاتها».
ولكن، في الواقع، بسبب هيمنة الفكر العلماني لا تلقى نظرية التصميم الذكي أيَّ قبول في عموم المجتمع العلمي الأكاديمي الرسمي، بل إن الأكاديمية الوطنيّة الأمريكيّة للعلوم أعلنت بصراحة أن نظرية التصميم الذكي «ليست عِلماً؛ لأنها لا يمكن أن تُختبر بالتجربة». ويبدو لي أن هذا الرأي الصارم هو صدى لمقولة شهيرة لداروين يؤكد فيها أن «الرجل العلمي يجب ألا تكون لديه رغبات ولا مشاعر، ويجب أن يكون قلبه مجرّد صخرة وحسب». وقد اعترف بذلك الدكتور مايكل بيهي، الذي يعتبر أبرز مُنظِّري فكرة التصميم الذكي، حيث قال «نعم، لا يمكن إثبات التصميم الذكي بالتجربة».
قضية دوفر
وفي صيف 2004، عبّر بعض الأعضاء المتدينين المنتخبين في مجلس تعليم منطقة دوفر، ولاية بنسلفانيا الأمريكيّة، عن امتعاضهم من تدريس نظرية داروين كحقيقة علميّة في مادة البيولوجي للصف التاسع (الثالث الإعدادي)، وقاموا باستشارة معهد ديسكفري الذي قدم لهم نصيحة قانونيّة بهذا الخصوص. وقبل أن نسترسل في الحديث.. نود التذكير بأن النار تأتي - بالفعل - من مستصغر الشرر؛ لأن منطقة دوفر صغيرة جداً؛ حيث لا يزيد عدد سكانها على 23,000 نسمة!
وفي نوفمبر 2004، تم التصويت على اقتراح في مجلس تعليم منطقة دوفر بخصوص إدخال نظرية التصميم الذكي في منهج العلوم. وكانت نتيجة التصويت ستة مقابل ثلاثة لصالح التصميم الذكي. وأصدر المجلس بياناً إعلامياً بأنه سوف يقوم جميع مدرسي البيولوجي، ابتداء من يناير 2005، ب «قراءة» (نكرر فقط قراءة) البيان التالي أمام طلاب الصف التاسع في المدرسة مرةً واحدةً فقط في كل سنة: «لأن نظرية داروين لا تزال «نظرية»، فهي لا تزال تُختبَر كلما ظهرت أدلة جديدة. إن نظرية التطور لداروين ليست حقيقة علميّة. هناك ثغرات في هذه النظرية لا توجد عليها أدلة. «التصميم الذكي» يشرح نشوء الحياة بطريقة تختلف عن رأي داروين. كتاب «عن الباندا والناس» متوافر للطلاب الراغبين في فهم التصميم الذكي. وكما هي الحال مع كل نظرية، نشجع الطلاب على أن يتمتعوا بعقل منفتح. المدرسة تترك أمر مناقشة أصل الحياة إلى الطلاب وأسرهم». انتهى البيان.
وكتاب «عن الباندا والناس» المشار إليه في هذا البيان كُتب خصيصاً لطلاب المرحلة الثانوية، وكان قد أثار ضجة عند صدوره في 1989؛ لأنه يناهض نظرية التطور بعنف، ويقدم حججاً مُبسَّطة للتلاميذ ضدها. كما يُبرهن الكتاب أن خلق الكائنات تم بواسطة ذكاء أعلى، ولا يحسم النقاش حول عمر الأرض. وتعود كلمة «الباندا» في العنوان إلى الحيوان المعروف والخلاف العلمي حول تطوره.
لكن الأعضاء الثلاثة المهزومين في التصويت في مجلس التعليم استقالوا احتجاجاً على عدم اعتبار نظرية التطور «حقيقة» علميّة. كما امتنع أساتذة البيولوجي عن قراءة البيان، فقام بقراءته مدير المدرسة.
وهكذا.. قامت القيامة! العلمانيّة في خطر!!!!
ثم رفع أحد عشر من الآباء في ديسمبر 2004 قضية طالبوا فيها بمنع مجلس التعليم في دوفر من قراءة مثل هذا البيان «الديني» - كما وصفوه في ادعائهم - عن نظرية التصميم الذكي في منهج العلوم؛ لأنه مخالف للدستور الذي يفصل بين الكنيسة والدولة. كما طالبوا بتدريس نظرية داروين بوصفها حقيقة علميّة.
بدأت المحاكمة في سبتمبر 2005. واستمع القاضي الفيدرالي جون جونز الثالث إلى أول شاهد للادّعاء، وهو الدكتور كينيث ميلر من جامعة براون، ولاية رود آيلاند، الذي قال: «إنه ليس هناك خلاف في الدوائر العلمية حول صحة جوهر نظرية التطور». وأضاف الدكتور ميلر «إن التصميم الذكي ليست نظرية علمية قابلة للتمحيص، بل فكرة دينية، ولذلك فقد رفضت من قبل العلماء»!!
ورد الدفاع بأن هدف البيان المضاف هو تطوير مادة البيولوجي، وأنكر وجود أي هدف ديني على الإطلاق. وثبت فيما بعد أثناء المحاكمة أن كنيسة دوفر المحليّة تبرعت بشراء وإهداء 60 نسخة من كتاب «عن الباندا والناس» إلى مكتبة مدرسة دوفر. واستمرت المحاكمة.
تدخل الفاتيكان
وحتى يكتمل التسلسل الدراماتيكي للأحداث.. تدخل الفاتيكان بصورة غير متوقعة تماماً في الصراع! حيث صرح مصدر رفيع جداً، وهو الكاهن جورج كوين (الرئيس اليسوعي لمرصد الفاتيكان الشهير)، في نوفمبر 2005 قائلاً: «التصميم الذكي ليس علماً، رغم مظهره الذي يوحي بذلك، ولا ينبغي أن يُدرّس للطلاب. إن وضع وتعليم التصميم الذكي مع نظرية داروين في مناهج التعليم جنباً إلى جنب هو أمر «خاطئ» يماثل خلط التفاح بالبرتقال».
الحكم
وفي ديسمبر 2005، دخل أنصار داروين والتصميم الذكي مرة أخرى إلى المحكمة في مدينة دوفر لسماع الحُكم. وحسم القاضي جون جونز الثالث الأمر بقرار تاريخي لصالح الآباء الأحد عشر قائلاً: «إن فكرة التصميم الذكي ليست عِلماً، بل جوهرها الدين، وهي بذلك تخالف الدستور» الذي يفصل بوضوح بين الدين والدولة.
أحدث الحُكم ردود فعل كبيرة في كلا المعسكرين، وأشادت جريدة يو إس أي توديUSA TODAY بنزاهة القاضي مشيرة إلى أنه ساند تدريس نظرية التطور رغم أنه «جمهوري متدين ويحرص على حضور الصلاة في الكنيسة كل أحد».
ورحبت معظم الدوائر الأكاديمية وهيئات المجتمع المدني العلمانية المناهضة لتدريس نظرية التصميم الذكي في المدارس بقرار المحكمة، واعتبروه ترسيخاً لمبادئ الدستور الأمريكي.
وأصدر معهد ديسكفري المحافظ بياناً غاضباً قال فيه: «إن قرار دوفر هو محاولة من قاضٍ فيدرالي لوقف انتشار فكرة علميّة ومنع مجرّد نقد الفكرة الداروينيّة من خلال رقابة حكوميّة مفروضة بدلاً من النقاش الحر. ولكنهم لن ينجحوا. لقد شوهوا «التصميم الذكي» في المحكمة وكذلك العلماء الذين قاموا بالأبحاث لهذه الفكرة». انتهى بيان ديسكفري. ولأن معهد ديسكفري قدم النصح القانوني لمجلس دوفر منذ البدء، فإن الأمر يبدو وكأنه مجرّد بالون اختبار من المعهد لمعرفة ردود الفعل؛ لأنها أول قضية فيدراليّة ضد «التصميم الذكي».
ولا شك في أن هذا الحكم مثل هزيمة قوية للمسيحيين المحافظين الذين يدعمون نظرية «التصميم الذكي».
وبالرغم من الحكم الإيجابي، والانتصار الباهر لأنصار نظرية التطور، فإن هناك الكثير من التحديات التي ستواجههم قريباً. فهناك أربع عشرة ولاية أمريكية تدرس سَنَّ قوانين يقول عنها العلماء إنها ستَحُدُّ من تدريس نظرية التطور.
وفي الانتخابات التالية التي جرت لمجلس تعليم منطقة دوفر، في نوفمبر 2005، سقط الأعضاء الستة الذين صوتوا لصالح «التصميم الذكي»؛ ما ألغى أية محاولة لاستئناف القضية لدى المحكمة الأمريكية العليا.
انتهى الجزء الأول، ونواصل مع الجزء الثاني في الأسبوع القادم بحول الله، وسيكون عن اضطهاد أنصار «التصميم الذكي» في المؤسسات الأكاديمية الأمريكية.
المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com