في واقعنا المعاصر ابتلينا بكثرة من يخوضون في شئون الفتوى ويتحدثون في قضايا ذات طابع فقهي ولو كان هذا السلوك يصدر من متخصص أو ممن له حظ من البحث والنظر لكان مستساغاً، بل هو المطلب المُلح لإثراء المعرفة ولبعث الحيوية في الساحة الفقهية, لكن الإشكالية هنا أنه بات الفقه كله مباحاً، فكلٌ يدلي بدلوه وعلى نحو لا يُبدد الجهالة بقدر ما يكرس تجلياتها.
التعاطي العقلاني الرشيد مع مثل تلك المسائل أمر يخضع في المقام الأول لوعي النص وهذا الوعي بطبيعته محكوم بحيثيات يفترض أن تتكئ عليها تلك العلاقة البينية وسأشير في هذا المساق إلى أربعة أسس جوهرية على وجه الإجمال:
أولاً: التعاطي المثمر مع النص لا يستوي على سوقه ما لم يضع في عين الاعتبار تلك الحيثيات المقاصدية التي يحملها النص في طياته فهي تكتسي أهمية قصوى في هذا المقام ولاشك أن وعي النصوص في إطار المقاصد العامة للتشريع شأن محوري في هذا المجال يؤول عدم اعتباره إلى الضلوع في إثم القراءة العبثيية.. إن الحراك إذا لم يكن منسجماً مع خصائص النص ومستوحى من مقاصده الحيوية فلن يسفر في النهاية إلا عن نتائج تنتهك بالضرورة مقتضيات البناء النصي العام.
ثانياً: ضرورة اعتبار البعد التكاملي الناظم للنصوص كافة، حيث بعضها يفسر البعض الآخر فالمفصل يكشف عن أسرار المجمل والمقيد يجلي الغاية من المطلق والعام يرد إلى الخاص والأجزاء تتضام إلى بعضها في ذلك النص ذي النظم المعجز والتنسيق البديع.
في راهننا المعاصر وُجدت قراءات تتجرأ على الاجتهاد في مجال النصوص مع أنها تفتقر لفقه الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وصيغ العموم والخصوص, والاستثناء والاشتراك, والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه ولا تدرك مواطن النكت البيانية واللطائف البلاغية ودقائق الدلالات اللفظية ووعي ما عليه الإجماع منعقد والتقاطع قائم.
ثالثاً: يتعذر التّماس مع حقائق التنزيل من غير الانبعاث من أفق خلفية معرفية بارعة في مجال علوم القرآن واستصحاب القيم التفسيرية والإلمام بتلك القواعد التي تواضع عليها ذوو الاختصاص والتي يشكل الوعي العميق لطبيعة ملامحها شرط أساسي لتصويب ممارسة القيام بالدور التفسيري وبالتالي صياغة مخرجات تتوفر على قيمة التماسك المتسق.
رابعا: الإحاطة الشمولية -والنسبية معتبرة بطبيعة الحال- بالأبعاد اللغوية واستلهام بنيتها التحتية والإدراك المستوعب لمعالم اللسان العربي بحكم نزول الوحي على ضوئه.
إن عدم القدرة على التناغم مع الأفق اللغوي وعدم التجاوب مع طبيعة تركيبته يوقع في فخ محاذير عدة وقد يفضي إلى لون من التعاطي الذي يلزم المفردة النصية ما لاتلزم, بل وقد يتعاطى معها بنقيض مقصودها.
إن هشاشة الفقه اللغوي وعدم التواصل مع تراثه الغني له مخرجات لاتنسجم مع المعطى النصي وبالتالي ستقود حتما إلى لون من الفهومات المجافية لمراد الشارع.
ومحصول القول: إن احترام التخصص وإفساح المجال لذويه وعدم التطفل والنأي عن اقتحام سياقات لا يتوفر المرء على أدواتها لابالقوة ولابالفعل هو الشرط اللازم لحماية جناب الفقه وصيانة مقام النص وحفظ جلالته عن ضروب التدنيس.
بريدة