في عصر تميز بتدفق المعلومات وتكنولوجيا الاتصال، انتقلت بعض المهام الراسخة على مر العصور من العديد من المؤسسات إلى العاملين بأجهزة الاتصال الحديثة، فبعد أن كانت تربية النشء مهمة الأسرة في سنوات الطفولة الباكرة أصبحت رسوم الكارتون ومحطات الأطفال هي التي تتولى المهمة، وبعد أن كان التعليم دورًا أساسيًا للمدرسة والجامعة لإنضاج مناهج التفكير وإطلاق أفق الوعي والمعرفة سرقت أجهزة التليفزيون بقنواته المحلية والفضائية هذا الدور عنوة بعد أن أصبح الشباب يقضون الجزء الأكبر من اليوم أمام الشاشة يتابعون مباريات الكرة أو أفلام الرعب والمغامرة وأحداث العنف هنا أو هناك، وبعد أن كانت المكتبات العامة ومكتبات الجامعات هي مكان البحث وإعداد الدراسات أصبحت لوحة المفاتيح في أجهزة الكومبيوتر ومؤشرات البحث على شبكة الإنترنت هي كل أدوات البحث والدراسة ولا داعي لاجهاد الدماغ ووجع العيون في القراءة والكتابة وإضاعة الوقت في رسم الكلمات حرفًا بعد حرف، فتقنية التظليل والنسخ واللصق تتيح نقل عشرات الصفحات إلى ملف الدراسة في ثانيتين ولا يهم إن كانت سليمة من الأخطاء والمغالطات أو زاخرة بها.
النتيجة بلا شك مؤسفة لأن خللاً فادحًا بين الأداة واستخدامها الأمثل قد أفضى إلى تغييب الوعي أحيانًا بدلاً من إشعاله، وإلى تردي للواقع الثقافي والمعرفي أصبح صفة مميزة للعصر. وعي العامة في حضوره أو غيابه تصنعه محطات التليفزيون، ولأن الفضائيات المجانية تتنافس في الاستحواذ على المعلن فقد دفعها ذلك إلى التنافس على تفاهة المحتوى كسبًا لقاعدة عريضة من المشاهدين لاغراء المعلن على اختيارها باعتبارها القناة الأكثر مشاهدة، وفي غمرة هذا التسابق لا يعنيها إلا الربح الأعلى ضاربة بمصلحة المشاهد وواجبها إزاءه عرض الحائط الفضائي الذي يعج بأشكال التفاهة.
المشكلة هنا ليست في أدوات العصر وإنما في القائمين على تشغيل تلك القنوات وفي وجوه النجوم الكرتونية التي غاب عن أصحابها أنهم محملون برسالة، وأن لهم دورًا خطيرًا في إنعاش الوعي وتحفيزه لا في تضليله وتعميته، حد أنني أكاد أزعم أن التدقيق في اختيار مذيع أو مقدم للبرامج ينبغي أن يزيد على التدقيق في اختيار وزير عدة مرات نظرًا لجسامة المسئولية.
تدقيق يضع المتقدم لشغل هذا الموقع في حكم المحال إذ عليه آنذاك أن يمر باختبارات معقدة تبدأ من الوقوف على مدى تحصيله العلمي ومستواه، مرورًا بثقافته العامة التي ينبغي أن تلم بكل مجالات المعرفة وهو ما لا يتوفر إلا في قلة نادرة، فاختبار ذكائه وقدرته على حسن التصرف، فالتأكَّد من أنه يحمل لعصره وبنيه كل هواجس الرفعة وأحلام التقدم عبر معرفة يقينية واثقة.
مثل كل الناس كنت أتابع مختلف القنوات الفضائية العربية بسبب تطورات الأحداث التي شغلتنا الأيام الماضية، ومن تلك المشاهدة خرجت بالقاعدة العامة التي تحرك تلك القنوات: تسابق خلف أتفه الأحداث للاستحواذ على ترتيب «الأول» في تغطية الحدث وليس يعني كيف كانت تلك التغطية.
حادثة أحمد الجيزاوي، المحامي الذي ضبطته أجهزة الأمن بمحاولة تهريب 21 ألف قرص مخدر، هو رجل قانون الخطأ الواحد منه بألف خطأ، وكان يخفي الأقراص في علب اللبن، أي أنه مدرك أنه يقوم بعملية تهريب، كذا يسئ إلى بلده وإلى شرف مهنته وإلى الجماعة التي ينتمي إليها بادعاءاتها الثورية (6 أبريل)، على الفور هرولت مقدمة برنامج «على المقهى» إلى أسرته، استضافت أخته وفتاة دون العشرين تقول: إنها «ناشطة حقوقية»، وكلام طوال الحلقة عن كرامة المصري المهانة بكل الأشكال في المملكة، وناشطة الحقوق المنتمية لنفس الجماعة تهدد وتلعن وتروي قصصًا لا يأتي بها خيال مريض مع أنها ربما تكون إحدى الراسبات في أولى ثانوي، والكارثة في مقدمة البرنامج التي تجاري وتتعاطف وتواسي مؤكدة على أن كرامة المصري لا تمس.
أي كرامة؟ كرامة أي عربي في أي بلد لا تمس متى كان شريفًا، لكن صاحبنا من المفسدين في الأرض جاء بنية تدمير شبابنا هنا فأي كرامة لمهرب أيًا كانت جنسيته.
كنت أتابع الحلقة وأتصور مدى ما تثيره في نفوس المغيبين على المقاهي وردود أفعالهم، وأتصور حوارًا بينهم: «آه لازم نكسرهم، كرامة المصري «.
أما المذيعة فلا شك كانت سعيدة أن كانت أول من عرض القضية.
اهتاج بلهاء المقاهي وتوجهوا إلى السفارة تشعلهم الجماعة الثورية التي ينتمي إليها المهرب وكادت الأمور تنتهي بكارثة تعكر صفو علاقات حميمة وتاريخية بين دولتين كبريين، وبين شعبين تربطهما أواصر النسب والدم، ذلك أن مقدمي البرامج في مختلف الفضائيات راحوا يلهثون خلف مذيعة الجزيرة التي سبقتهم، ويتفننون في إبداء مشاعر الغضب والتعاطف مع الكرامة الموجوعة.. «الحقيقة». «الطبعة الأولى»...»العاشرة مساءً».. ميتافيزيقا الفضاء، وكأن فوق كل حدث غمامة من الجهل تقي من قيظ المعرفة.. يبدو المذيع أو المذيعة أنيقا ووسيما إلى أن يبدأ في الكلام فتتحرك السحابة فوق رأسه..
وأتساءل الآن: كيف وضع هؤلاء في موضع مسئولية خطيرة في تحريك مشاعر العامة دون أن يتوقف أحدهم لحظة يفكر فيما يجوز أو لا يليق؟ فهنا تلعب ثقافة المذيع دورها الحاسم في أداء الدور بشرف، وأجزم أن أصحاب تلك البرامج هم ممن لم تصبهم جرثومة الوعي أو الثقافة.
ثقافة المذيع أو مقدم البرنامج مطلب بالغ الأهمية، مع ذلك فقد يزداد إحباطنا حين يكون مقدم البرنامج رجلاً عرفناه بكتاباته، ورئاسته لتحرير إحدى المجلات الإسلامية، رجل محسوب على المثقفين وهو يدير حوارًا لا يكاد يختلف في ترديه عمًا أشعل به جهلاء الفضائيات مشاعر البسطاء من المصريين، على حين رأينا الشباب السعودي صغير السن يملأ التويتر والفيس بوك بكلام رائع وجميل أثبت به هؤلاء أنهم أكثر وعيًا وثقافة وتحضرًا من كثير من مثقفينا!!!! بعد أن تشاهد برنامجًا، إن أحببت أن تعرف حجم ثقافة مقدمه فطالع عشرات الأسماء على الشاشة من معدين وكتاب للسيناريو وجامعين للمادة ومنسقين ومنتجين ومخرجين وعشرات الفنيين (من بينهم مصفف الشعر) لتعرف أن هذا الحشد من الأشخاص والوظائف قد تم ابتكاره ليسد فجوة في ثقافة المذيع الذي يضيق وقته عن قراءة خبر أو كتاب بعد أن تبدده مهام المظهر وطريقة اللبس وتصفيف شعر تغطيه غترة في معظم الأوقات، وبداخل الرأس فراغ مرتبك لا تطاله يد التشذيب.
الرياض