Culture Magazine Thursday  10/05/2012 G Issue 373
فضاءات
الخميس 19 ,جمادى الآخر 1433   العدد  373
 
تحوّلات الجمهور الجديد إعادة إنتاج الثقافة
ياسر حجازي

 

(أ)

في دراسة على مدى تأثّر المعنى تشويهًا وتآكلاً عند خضوعه لحالات الترجمة المعتمدة على ترجمة سابقة وليس على الأصل مباشرة؛ كُلّف مترجم بنقل نصّ سريانيّ إلى الإنجليزية، وحينما فرغَ أُعطيت ترجمته إلى آخر لترجمتها إلى السريانيّة دون الاطلاع على الأصل، ثمّ قُدّمت النسخة السريانيّة المترجمة لآخر كي يترجمها للإنجليزية دون استعانة بالأصل أو بالترجمة الإنجليزية السابقة؛ فما الذي حدث في الترجمات المتقدّمة (السابعة مثلاً)؟ ما الذي يمكن أن نتخيّله؟ لقد وصلت المعاني إلى فقدان ملامح الأصل تقريبًا، ولم تعد هناك من ارتباطات وثيقة تثبت أن النسخة الأخيرة هي ترجمة للأصل. فالعنعنة في الترجمات: أي ترجمة عن ترجمة عن ترجمة إزاحة للمعاني وتشويه للأصل.

(ب)

إلى أي مدى يمكن أن نتخيّل أشكال المعرفة والثقافة بعد تعرّضها المستمر لعمليات «إعادة الإنتاج الشخصي» في مشاعيّات الواقع الفضائي، حين يشارك المتلقّي «بإعادة إنتاج ما يتلقّاه» بصيغته الخاصّة، مُتحرّرًا من الوازن الداخليّ الأخلاقي والجمالي، مُجردًا من أدوات المعرفة؛ وهذه «الثقافة المعادة» ليست صيغة نهائيّة يمكن مقابلتها بالأصل ومحاكمتها، بل صيغ متكاثرة، إذ يقوم متلقٍّ آخر «بإعادة إنتاجها» على طريقته وغاياته أيضًا، وهكذا تكون القوّة والتأثير «للثقاقة المعادة» وأيّ إصلاح فيما أفسده الواقع الفضائي يكاد يكون أمرًا تعجيزيًّا، وخطلاً أن يُنسب الهجين المركّب عبر (الإعادة الاختلاقيّة السطحيّة) إلى الثقافة عينها: «الطوطم، السلوك، التأويل، التنوير»؛ فما إسقاط «الهجين» على الواقع إلا ملمحًا لفترة (مابعد الثقافة)؛ التي بدأت تطغى ملامحها: «التماهي، تحوّلات الجمهور الجديد، حالة الاجتماع الجماهيري الدائمة، الارتباك السياسيّ، غياب الثقافة، تطوّر ثقافة الصورة، الخداع اليوميّ».

فأيّما منتمٍ للواقع الفضائيّ تتاحُ له إمكانات «اختلاق» واقع بديل، فبعد أن كانت تقنيات الوسائل المونتاجيّة والاتصاليّة والتمويهيّة من أدوات مخابرات الدول المتقدّمة، ومحترفي الخدع السينمائيّة، آلت لعبة سهلة الاستخدام في يد الجمهور؛ وتلك اختلاقات كفيلة بتوليد جماعات ضغط على صنّاع القرار السياسيّ.

والواضح حتّى الآن - وقد أظهره «الربيع العربي»- أن دوائر صناعة القرار السياسي لا تملك وسائل جديدة لإدارة هذه الأزمات المختلقة والمفتعلة وذات المطالب الشرعيّة أيضًا، ولعلّها من الخطورة أنّها شاركت في سقوط أنظمة عربيّة عدّة، وأسهمت ضغطًا في تحوّلات أنظمة أخرى، فلا شكّ أن الطرق القديمة لم تصمد في مواجهة المتغيّرات ورهونات «فترة مابعد الثقافة» المتسارعة والنامية كقوّة باطشة لا ترى ولا تزر.

(ج)

من هنا تهتمّ المقالة بمناقشة مفهوم الجمهور وتحوّلاته في (الواقع الافتراضي-الفضائي)، فتلك القوّة العمياء المغيّبة إلا من مشاركة دوريّة في الأنظمة الديمقراطيّة تحت تأثير الإعلام والمال السياسي ومواقف المرشحّين من القضايا التي تدخل في صلب اهتمامات الجمهور، وهذا المستوى من المشاركة موقوف على ردّات فعل الجمهور ومدى تأثّره بالحملات الانتخابيّة التي تمثّل الفعل، أمّا جمهور الواقع الافتراضي فإنه بحالة انعقادٍ دائم، يمارس بالتماهي تدخّلات في التشريعات، وضغوطات سياسيّة، وتشهيرات محبوكة، ومحاكمات تفتيش وتصفيات شخصيّة؛ فلا ينبغي اعتبار نشر (ويكيليكس) لوثائق سريّة لحكومات دول العالم حدثًا استثنائيًا وحسب، دون الالتفات إلى ما يحمله من مؤشّرات اختراق الجمهور إلى «المصنع السياسي السرّي»، ممّا يزاحم وينقص من النفوذ السياسيّ لمصلحة نفوذ جمهوري يتولّد بتسارع؛ وممّا يعرّي الإعلام المرئي باعتباره سلطة مساندة للسلطة وليس سلطة مساندة للجمهور. فلم يُعدُّ دور الجمهور هامشيًّا ومؤقّتًا، بل دخل بقوّة إلى عالم يحاكم فيه كلّ من ينتمي إلى الواقع الأخرس وسلطاته.

ومن هنا تتّضح تحوّلات الجمهور الجديد حين يقوم -يوميًّا- بتقويم ومراجعة أعمال ممثّليه في البرلمانات والوزارات والبلديات، هو ما يعني أن مشاركته في الإدارة قد غدت ممكنة، ممّا قد ينبّئُ أن الديمقراطيّات الانتخابيّة معرّضة لمراجعة أشكالها في المستقبل القريب جدًا - لما بعد التمثيل البرلماني- لمواكبة الجمهور المتماهيّ مع التمثيل الفوري مشاركة في سياسة بلاده؛ هكذا يتحوّل الجمهور من: (1) مستمع إلى متكلّم (2) من متلقّي ساكن إلى متلقّي منتج (3) من مُتأثّر إلى مُؤثِّر (4) من متوارٍ إلى ظاهر(5) من غائب إلى حاضر لا ينام (6) من مُمَثَّل عنه إلى ممثِّل عن نفسه (7) من شعب إلى ميليشيات (8) من أفراد متفرّقة إلى جماعات في حالة اجتماعٍ دائم.

(د)

لا يمكن التعامل مع الواقع الفضائي بالطرق عينها المتّبعة مع الواقع، ولفهم منطق الواقع الفضائي علينا إضافة منطقيّات أخرى غير مألوفة، حيث يعتم د «المنطق الفضائي» على تأثير التماهي على الذاتي، وغياب الأولويّات بين الخاص والعام، بين المحليّ والعالمي، وهو منطق يعترف باللامعرفة ويدخلها في معادلاته للمعرفة تفسيرًا للراهن واشتراكًا في صناعته.

فلئن كنت أزعم أن الثقافة نقد السلطة، وأنّ ممكن الثقافة هو نقيض ممكن السلطة، فإن (ما بعد الثقافة) هي نقد الثقافة والسلطة معًا، وهي حالة صراع بين ارتداد وتقدّم، وممكن (ما بعد الثقافة) يدخل في الممكن الفضائيّ، الذي يتضمّن المستحيل كاحتمال قائم تحت أمر «الحبكة» ومستويات تبنّي الجمهور لها، بحيث إن قيم الفضائي المتعلّقة بالتركيب وبالاختلاق تتحوّل من قيم معيبة بل وشبه جنائيّة أيضًا، إلى قيم ذات حرفية؛ فحين يقوم شخص ما بسرقة بطاقات ائتمانيّة فإن عمله الواقعي (سرقة)، أمّا عمله الفضائي (بطولة).

كلّ شيء مباح في الواقع الفضائي إذًا، فالتماهي محلّ كلّ شيءٍ: (الأخلاق واللا-أخلاق تتماهيان، المعرفة واللا-معرفة تتماهيان، الواقع والافتراض يتماهيان..) ثمّ يكون الفصل بينهما ضربًا من الخيال، هكذا نفهم إخفاقات الثقافة في المحافظة على بديهيّاتها الأولى؛ فالقوّة اليوم للواقع الفضائي وما بعد الثقافة. ولعلّ التمثيل على قوّة (ما بعد الثقافة) وتأثير الافتراضي على الواقعي لا حصر له؛ بدءًا بالربيع العربيّ وامتداداته وتناقضاتها وليس انتهاء (بحادثة الجيزاوي)، التي استحضرها -هاهنا- كنموذج بسيط وواضح لتأثيرات الافتراضي على صنّاع القرار السياسي. فالحدث المجرّد: «هو اعتقال مصري في مطار جدّة»، أمّا تأويلاته العديدة والمتناقضة في النطاق الفضائي فقد أثّرت على الشارع حتّى قامت جماعات بمحاصرة السفارة السعودية في القاهرة ممّا أوصل المسألة إلى إعلان السعودية إغلاق السفارة والقنصليات واستدعاء السفير للتشاور (والمسألة قيد الانتهاء الآن). ماذا نفهم من هذا الحادث الافتراضي الواقعي؟ هل نحن أمام ممارسات جماهيريّة بوجه كلّ قرار أو حادث يؤوّل في الناطق الفضائي بما لا يتحمّله، ويكون العامل المحرّض، ممّا يجعل الأطراف المرتبطة واقعة تحت رحمة جنونيّات الجمهور وهستيرياته.

إنّ دراسة مجموعة كبيرة من الأحداث المجرّدة ومقارنتها بتأويلاتها الفضائيّة وتأثيراتها الاجتماعيّة والسياسيّة مسألةٌ في غاية الأهميّة، إذ بمقدورها أن تبيّن مجموعة المخاطر التي يحملها تماهي الافتراضي والواقعي وانفلات الجمهور الجديد اللا محدود، وتحوّلاته التي تهدّد المستقبل القريب، وتهدّد مفاهيم المؤسّسات المدنيّة وفكرة الدولة الحديثة؛ فإلى أي مدى يمكن للمدنيّة اليوم أن تستوعب آثار ما تفرضه قوّة الفترة الفضائيّة الطاغية!

جدة Yaser.hejazi@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة