ورحل صديقي القديم محمد عبد الإله العصار، لست أعرف لماذا كانت السمة البارزة السريعة، عينان له تشع بمزيج من الذكاء والموهبة والحذر، لتشدني إلى صداقة شاب لا أعرفه من اللقاء الأول، فتربطني به صداقة متينة، امتدت إلى آخر يوم رحيله تغشاه رحمة الله، وحتما كانت المعرفة بداية الثمانينات بين جنبات جدران وأروقة جريدة الرياض، كنا معاً في مقتبل العمر والغريب للغريب صديق، غربة المكان وغربة الأحاسيس، عرفت شاباً يمانياً مثقفاً ومحتشداً، يثقل رأسه من الحمولات بما يفوق عمره، كانت أحلامه شاسعة وطموحه رفيعاً..
عرفت أن الشاعر المرهف الحس، قد تلقى تعليمه الابتدائي في عدن أبان الاستعمار البريطاني لها، ثم انتقل للتعليم والحياة في السودان، كان هذا في طفولته المبكرة، ومطلع شبابه مع أنه من مواليد (ذمار) في القطر الشمالي اليمني حينها، وأتاح لي ظرف صداقة الشاعر الشاب الكثير من ألوان المعرفة، وفرحت حينما مدني حينها بنتاج الكاتب الروائي زيد مطيع دماج (الرهينة) التي وجدت صدى عربياً ودولياً، لتصويرها اليمن بالرهينة في زمن الإمامة، ولم تكن متاحة لي ولأمثالي قراءتها في ظل ركود ثقافي مشترك، ومدني في الجانب الآخر بروايات محمد عبد الولي، وتعاطفت وأحببت روايات عبد الولي ونهايته الحياتية وسقوط طائرته، فقد كان العصار نافذة مضيئة على الآداب والسياسة في بلاده، وكان حينها قد تدرج في الفعل الثقافي، والعمل الصحفي في جريدة الرياض، وصار محمد وجها مألوفاً في النسيج الأدبي وفاعلاً في الحراك الثقافي، وكان محباً وشفافاً وعنيداً شرساً في الدفاع عن قناعاته بشدة، يسكن إلى جوار الشعر مع طفليه وزوجته في شقة متواضعة، شهد سطحها جولات من الحوارات مع زواره من مثقفي مدن المملكة واليمن من مختلف الأطياف.
صدر ديوانه الشعري الأول في الرياض 85 م وحمل عنوانا (بوابة في شكل الوطن) وغلافه عبارة عن رقعة مربعات الشطرنج، والديوان الثاني «مشهد الدم من حلم ذي يزن» ويحمل عنوان قصيدة اشتهر بها، وجاءت إثر أحداث 13 يناير 1966 بعدن وهي عبارة عن مرثية جميلة وحميمة لعبد الفتاح إسماعيل. كنا نسمعها منه قبل خروج الديوان، وينفجر الصراع والحوار وينتهي الليل، أضمر في نفسي أن تلك آخر ليلة تجمعني به، ولكن يا للمفاجأة!، فيسبق ذلك الكائن بياض الفجر، ليسألني، ما البرنامج، وماذا أعددت اليوم؟
عرفت والده فيما بعد رحمه الله، وكان صاحب لمقهى شرق الرياض بعد ما كان مناضلاً، يمد الثوار قبل الاستقلال بالسلاح في عدن، وسرعان ما أصبح المقهى مكاناً أليفاً، وملتقى مريحاً لعدد من المثقفين حتى أولئك الذين ليسوا من عشاق الشيشة، فكنت أقرأ الوداعة والسماحة في وجه العجوز اليماني، وسيرة تراكم الأيام الطويلة والرحيل الدائم، تمزقها تلك النظرات الثائرة في عيون الابن الشاب..
محمد شاعر جميل ألهته السياسة، واللعبة المشوهة في المنطقة العربية، أصر بشدة عند احتلال الكويت على العودة إلى بلاده مع جموع اليمنيين، والحق أن له أصدقاء كثر نصحوه بالتريث، والبقاء فوق الصراعات السياسية، وقدمت له جريدة الرياض مغريات كثيرة ليبقى ولكنه رحل، وتشاء الصدف أن تكون زيارتي الأولى، لأرض بلقيس وأرض الجنتين في فترة تحرير الكويت، وجاءتني بينهما (الاحتلال والتحرير) دعوة استفزازية كعادته رحمه الله في اتصال من فندق بجدة، وقد جاء في زيارة مع وفد وأصبح رئيساً لتحرير جريدة الوحدة اليمنية.
فزرته واستقبلني وأكرمني في بيته، وعرفني على الأوساط الثقافية، ولكني لم أستطع أن أبقى في اليمن بعمومه، وغادرت بعد ثلاثة أيام بسببه، لقد تغير كل شيء، وأصبح صديقي شبحاً، وسمعت من أشقائه ما يزعج، وخوفهم على صحته، ولنلتقي في اليمن مرة ثانية قبل أربع سنوات تقريباً في فعاليات الثقافة السعودية، وحضر اللقاء ابنه زياد والراحل الكبير محمد الثبيتي رحمه الله، وقد صار محمد العصار رئيساً لتحرير (معين) وقد خفّت ذلك البريق في عينيه، وبقيت الغربة رغم أنه في الخمسين من عمره، فحزنت ولست ضد أن يكون للشاعر للفنان للمثقف موقف سياسي، لكن يؤلم أن ينخرط الفنان في وهج وضجيج السياسة اليومية الهشّة، وضاع محمد في غفلة من وطن بقي جميلاً في أحلامه، كما قال صديقه وصديقي صاحب رواية (اليهودي الحالي) الروائي علي المقري.
حادثني الشاعر محمد زائد الألمعي بعد أن شارك في رحيل الشاعر النبيل إلى مثواه الأخير في صنعاء، فشعرت بريح تزلزلني قبل أن يبدئ الألمعي (اقتراحاً) عما يمكن أن نفعله لعائلته وأطفاله، المثقفون هم أدرى ببعضهم، ويقدرّون العيش والملح!، وإذ أرثي اليوم محمداً بعد فاجعة الرحيل، أرثي الأيام الموجعة بلا ثمن، فلتنم يا أبا زياد قرين العين ولزياد وبشار ومحمد وعلياء، ضوء المستقبل وبياضه.
الرياض