Culture Magazine Thursday  10/05/2012 G Issue 373
فضاءات
الخميس 19 ,جمادى الآخر 1433   العدد  373
 
بين ولاية الفقيه وولاية الأمة: الفكر السياسي الشيعي
عبدالله العودة

 

ليس بمقدور هذا المقال القيام بالتوصيف الدقيق للتمايزات الداخلية في الفكر السياسي الشيعي؛ لأنه مجال كبير كتبت فيه بحوث مهمة عربية وأجنبية.. لكن الغرض الوحيد فيه هو إيصال مستوى الفروقات السياسية والفكرية للقارئ.. لعل ذلك يساعده على قراءة أحداث كثيرة..

منذ بزوغ الفكر الشيعي واهتمامه الأساسي بالسياسة.. كانت المفارقة المدهشة أن الخط العريض المستقر طوال كل القرون الماضية للفكر السياسي الشيعي هو - كما يبدو - تيار الساكتين «The Quietists» كما يسميهم الباحث الأمريكي كارل براون. الساكتون هم المهتمون بالعلوم الدينية والمتخصصون والباحثون في سائر المعارف الجلية والكلامية والفقهية وغيرها.. الذين يتحاشون بشكل كلي الخوض في عمل سياسي مباشر أو محاولة المدافعة السياسية بأي شكل من الأشكال.. وفي الغالب منطلقين من المفهوم الشيعي «الغيبة» الذي يؤمن بأن الشخص الوحيد الذي يمكن أن يطبق الشريعة سياسياً ليس أفراد الناس ولا أي حكومة أرضية بل هو الإمام العسكري الغائب وحده الذي «يملأ الدنيا عدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً».

هذا التيار الأعرض تاريخياً والأكثر حضوراً كان يمارس مهمات أخلاقية مثل «الصبر».. ومواقف يحكمها هذا «الانتظار» لهذا الإمام الغائب وعدم الخوض بشكل مباشر في السياسة لأي غرض ديني؛ لأن ذلك يعني بشكل أو بآخر مشاركة الإمام الغائب في مهامه التي يقيمها في الأرض. موضوع السياسة ضمن هذا الإطار يمكن فهمه وقراءته ودراسته بشكل ديني وعلمي مجرد فقط.. ولا يمكن على الإطلاق مزاحمة العمل السياسي وممارسته؛ لأن ذلك من المهام المرجأة لذلك الإمام - حسب هذا الاتجاه -.

هذا الاتجاه «الساكت» من الفقهاء الشيعة تاريخياً لا يمارس أي مهمة سياسية.. بل يقوم بعمل سلبي تجاه أي حكومة؛ فهو بطريقة أو بأخرى يؤكد التباس العمل السياسي في الفقه والفراغ السياسي الواقعي، لكنه في الوقت ذاته لا يسعى ولا يهدد على الإطلاق أي حكومة مدنية مهما كان شكلها، كما أنه في الوقت ذاته لا يحتوي على أية آلية واقعية في فترة «الغيبة» هذه التي نعيش - حسب هذا التيار - ولا يقدم أي أدوات تُحِدّ من السلطة المطلقة.. وبعض الباحثين يشير إلى أن السيستاني أقرب لهذا الاتجاه في محاولة الخروج من أي عراك سياسي والوقوف إلى الجوار بسكوت تام.

ومع تاريخية وتقليدية هذا الاتجاه الساكت في الفكر الشيعي إلا أن نظريتين حديثتين سيطرتا على مشهد الفكر السياسي الحديث من ناحية التأثير والوجود في الساحة الملتهبة عربياً وإسلامياً: النظرية الأولى: نظرية ولاية الفقيه. والنظرية الأخرى: نظرية ولاية الأمة.

ولماذا هاتان النظريتان أكثر حضوراً؟ ببساطة لأن الموقف التقليدي التاريخي في موضوع السياسة كان يعبِّر عن اللاموقف في الشأن العام وشبه الحياد التام في العمل السياسي.. وهو ما يجعل المشهد الثقافي السياسي قابلاً للاختطاف لصالح أي من هاتين النظريتين الحديثتين في الفكر الشيعي.

النظريتان الحديثتان تنطلقان من مقدمة مشتركة، تقول إن المسلم في العمل السياسي لا يمكن أن يبقى «سلبياً» منتظراً.. «صابراً» من غير أن يقدم عملاً أقرب إلى الأخلاقيات السياسية المتداولة في علم الكلام والفكر الديني.. بل لا بد من وجود مبادئ سياسية في الفكر الديني والمدني تنطبق على حالة «الغيبة» التي يعيشها المسلم الشيعي في هذه الفترة الطويلة والكبيرة جداً في التاريخ والعصر.. لكن المقاربة كانت مختلفة جداً وشبه متناقضة بين النظريتين في النتيجة؛ حيث قدمت «نظرية الفقيه» منصب «الإمام الفقيه» الذي يسد هذا الفراغ، ويقوم بمهام «الإمام الغائب»، وينوب عنه في تحقيق هذه المبادئ الدينية حيث لهذا الإمام السلطة الكاملة لتنفيذ هذا المشروع ضمن الشروط الدينية التي قد يكون هذا الإمام نفسه هو من يحقق فيها ويقننها..

نظرية ولاية الفقيه هي الفكرة التي بدأها تقريباً النراقي في القرن الثالث عشر الهجري مع وجود إشارات بسيطة لهذه الفكرة قبله.. ثم طوَّرها وتبناها سياسياً الخميني في «الحكومة الإسلامية»، وقدمها بوصفها حلاً إسلامياً شيعياً للفراغ السياسي.. وهي في النهاية تذكرني بحكومة الأكليروس في القرون الوسطى حين يكون مرجع البلد مؤسسة دينية رسمية هي التي تقوم بكل أعمال الحكومة من الإشراف على القوانين وتعيين القضاة إلى تعميد المرشحين للرئاسة.. فكل رئيس للبلد تنفيذياً حسب مشروع الخميني - مثلاً - يجب أن يشرف عليه شخصياً ويسمح بشكل مباشر في خوضه لصراع الرئاسة.. ليكون الصراع السياسي والعمل الانتخابي خلافاً بين مجموعات وبرامج سياسية كلها يرضى عنها هذا الفقيه تماماً، ويسمح لها بخوض العمل السياسي!

هذه الممارسة السياسية اختلطت فيها نظرية «ولاية الفقيه» بالتطبيق الخميني والمشروع الدستوري الذي لم يكن يطبق بشكل كامل رغم أنه هو شخصياً من أشرف عليه واعتمده..

النظرية الحديثة الثانية (نظرية ولاية الأمة).. فكرة لم تكن حاضرة بهذا الاسم فيما قبل، لكن النائيني الذي نشأ ما بين القرنَيْن الثالث عشر والرابع عشر قدم نظرية سياسية سُمّيت بالفكر الدستوري، كان أقرب ما يكون لنظرية ولاية الأمة.. التي طورها حديثاً فيما يبدو محمد مهدي شمس الدين بهذا الاسم «ولاية الأمة» كرد نظري على فكرة «ولاية الفقيه».

ولاية الأمة تعني أن الموكل بتطبيق المبادئ الشرعية والعدلية ليس شخص فرد فقيه بل هو عموم الأمة عبر قدرتها السياسية على التمييز وحقها في الاختيار دون تدخُّل من مؤسسة دينية أو تسلط منها بأي شكل من الأشكال.. وهذا ما كان يطرحه أيضاً محمد حسين فضل الله الذي اعتمد الكثير من المبادئ الليبرالية في الحالة السياسية، وتبني الخيار المدني نحو دولة أكثر عدالة وتعبيراً عن خيار المجتمع المسلم.

هذه المواقف الثلاثة هي فقط أمثلة على التعدد السياسي في الفكر الشيعي الذي لا يمكن قراءته عبر نظرية واحدة ولا نموذج واحد.. فالقراءة العادلة تعني استحضار هذه الفروقات وتجنب اللغة التعميمية التبسيطية من أجل هذا الوطن والمجتمع المتعدد المتعايش.

أمريكا aalodah@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة