عندما يأتي الحديث عن نظرية المحاكاة في الأدب، يلوح للمتحدث من بعض من يتلقون حديثه أو من جُلِّهم ما يُشْعِره بالتهوين من قيمة ما يتحدث به عنها. فهي نظرية أكل الدهر عليها وشرب، وقد عرفها المهتمون بالأدب بنسبتها إلى أفلاطون وأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، وكفى بهذا الزمن البعيد دلالة على تخلفها عن مضمار المعرفة النقدية الأدبية والتقدم النظري، ومجاوزة الوعي الحديث إلى غيرها من النظريات التي لم تظهر ولم تكتسب قيمة لو أن ما حملته المحاكاة في نسختها اليونانية تلك أغنى عن الحاجة إلى غيرها. ويضاف إلى ذلك ارتباطها في الوعي بالمدرسة الكلاسيكية التي يضيق بها وعي الأدباء المحدثين وتنفر منها أذواقهم، فقد كان أرسطو تحديداً منجماً للقواعد الأدبية التي ضيقت على الأدباء واسعاً على مستوى القول وعلى مستوى التصور والرؤية.
وفي الحقيقة فإن مقولات المحاكاة تجاه الفن فقدت ما حملته الكلاسيكية عليها من القيود التي بدت أبدية، لكنها ما تزال حاضرة في أسئلة العلاقة بين الأدب والواقع، وفي أسئلة الطاقة الإبداعية التي تحيل الفعل الأدبي إلى إنتاج للواقع لا استنساخ له، وفي الوظيفة التي يتناهى الفن إليها لدى المتلقين: متعة خالصة أو ممزوجة بفائدة أخلاقية أو إيديولوجية أو معرفية. وكان للمحاكاة أثر واضح منذ العصور القديمة في إطلاق سؤال الأصالة بمعناها الفردي وبمعناها الثقافي الاجتماعي والتاريخي، وهو سؤال مؤثِّر في اتساع الدراسة الأدبية الحديثة بنشوء الأدب المقارن في مدار البحث عن وجوه التشابه والاختلاف والتأثر والتأثير بين الآداب المختلفة اللغات. واتصال هذه النشأة بروح جديدة في الحقل النظري تحيل على مدلول العموم والكلية الذي وسم الشعر عند أرسطو فجعله - كالفلسفة- في مقابل الجزئية التي تسم حقل التاريخ، وتتمثّل هذه الروح حديثاً في الاعتقاد بكلية الظاهرة الأدبية، ومجاوزتها للوطنية الثقافية والتعصب الشعوبي والتوجهات الانعزالية والمنغلقة، وهي وجهة بدت - خصوصاً- في المدرسة الأمريكية في الأدب المقارن، على نحو ما نجد - مثلاً- عند رينيه ويليك الذي يقرِّر أن التعريف الذي يؤمن به للأدب المقارن هو «الدراسة الأدبية المستقلة عن الحدود اللغوية والعنصرية والسياسية» أي أنه دراسة للأدب من منظور عالمي بحسبان التجارب الأدبية كلها وحدة واحدة. وهذا هو الاتجاه الذي دفع الأدب المقارن إلى الولوج في تحولات نظرية في ما بعد البنيوية خصوصاً في نظرية ما بعد الكولونيالية التي كشفت عن المشاكل التي خلقها الاستعمار الغربي، فأصبحت الثقافة ذاتها متورطة في ممارسات خطاب الغرب، بما يستدعي الوقوف في وجه فكرة العالمية التي تحيل على المركزية الغربية. وقد نال كتاب إريش أورباخ: «المحاكاة» الذي أصدره عام 1946م، وعَنْوَنه بالاسم الإغريقي للمحاكاة وهو Mimesis، أهمية كبيرة في النقد الحديث منذ صدوره. وذلك على الرغم من أن الكتاب ليس تنظيراً للأدب، بل هو ممارسة وصفية لعدد من الأعمال الأدبية في الثقافة الغربية منذ هوميروس وحتى فرجينيا وولف وجيمس جويس، تحاول استخلاص دلالتها على روح العصر الذي تحيل عليه، ولا يتردد مصطلح المحاكاة الذي يعنون الكتاب في المتن بالمعنى الذي يحيل على أصوله النظرية. وقد أخذت أهمية كتاب أورباخ مدى أوسع في ما بعد الكولونيالية، وفي كتاب إدورد سعيد «العالم والنص والناقد» (1983م) الذي أنجزه بعد كتابه الشهير «الاستشراق» (1978م)، احتفاء افتتاحي في أول مقالات الكتاب يصفه بأنه «واحد من أهم الكتب وأكثرها إثارة للإعجاب، وكتاب من أنفس الكتب التي ظهرت على وجه الأرض عن النقد الأدبي». ويعيد سعيد مكمن الإعجاب في هذا الكتاب إلى ظروف تأليف مؤلفه، لاجئاً يهودياً هارباً من أوروبا النازية خلال الحرب، وكان هذا اللجوء إلى استانبول التي طالما تمثّلت في الخيال الأوروبي لقرون رمزاً للآخر المسلم العدواني المروّع. وهذه مفارقة انقلب فيها المنفى من تحد ومن صدمة لذاته الأوروبية إلى مهمة إيجابية سيكون نجاحها عملاً ثقافياً ذا أهمية فائقة. أما كيفية ذلك فهي الفكرة التي ظهرت على أوضح ما تكون في كتاب «المحاكاة» وهي التعامل مع الإنسانية جمعاء وتخطي الحدود القومية. وقد كان أورباخ يبدي إعجابه بأوروبا نتيجة افتقادها في منفاه وكان ينظر إليها نظرة جديدة كمشروع اجتماعي وتاريخي مركَّب يخلقه ويعيد خلقه رجال ونساء في المجتمع.
وقد نقول إن نظرية المحاكاة تعرضت للاستبدال والدحض في النظريات المختلفة، وقد نال مبناها تفكيك ونقض على يد جاك دريدا - مثلاً- في نقضه لمركزية العقل ومركزية اللوجوس. لكن ذلك كله لا يعني الإلغاء لنظرية المحاكاة ودفنها إلى الأبد، فالنظريات التي دحضتها ونقضتها تقول ما تقول على خلفية ما تسكت عنه، فلا يسوغ أن نركز على ما تطرحه فقط، بل على ما استثنته أو نقضته أو استبدلت به، وليس من سبيل لفهم المبنى النظري دونما فهم لبدائله التي يحل نفسه في محلها، ولا فهم للتفكيك دون وعي بما يعمل على تفكيكه ونقضه. وقد قال تودوروف في تصديره للترجمة الفرنسية الحديثة من كتاب الشعر لأرسطو: «ليس من المبالغة في شيء أن نقول إن تاريخ الشعرية يتطابق في خطوطه الكبرى مع تاريخ الشعر لأرسطو». وإذا كانت نهضة النظرية الأدبية الحديثة في الغرب قد انبثقت من استحضار نظرية المحاكاة وتعمُّق فهمها، فلا أحد يتصور النهضة العلمية والمنهجية في الحضارة العربية الإسلامية في العصر العباسي دون أن يتصور الصلة باليونان، وترجمة أرسطو على وجه الخصوص. ولن يقتصر تصور هذه الأهمية على ما ناله تفسيره للفن بأنه محاكاة، والفلسفة النظرية التي انبنى عليه كتابه «فن الشعر» في اتجاه ذلك التفسير، من عديد الشروحات والتلخيصات العربية الإسلامية المعروفة، بل يتعدى ذلك إلى المنطق الصوري والمقولات اللغوية والبلاغية والفلسفية التي تتصل بالنظرية اتصال الإطار بمحتواه، وهي مظهر ملموس في التكوين الإبستمولوجي للعلوم العربية والإسلامية. وفي العصر الحديث تُرْجِم كتاب أرسطو إلى العربية ودرس مرات عديدة ولعل أولها ترجمة محمد خلف الله أحمد وعاطف سلام في الأربعينات، والثانية للدكتور عبد الرحمن بدوي عن اليونانية ونشرها مرفقة بشروحات الفارابي وابن سينا وابن رشد (1953م)، والثالثة لإحسان عباس (1951م)، والرابعة لشكري عياد مصحوبة بتحقيق للترجمة القديمة إلى العربية لمتّى بن يونس ودراسة لأثر كتاب أرسطو في البلاغة العربية (1967م)، وخامسة لإبراهيم حمادة مع النص الإنجليزي الذي تمت الترجمة عنه (1983م). أما الكتب والدراسات العربية الحديثة التي اتجهت إلى دراسة نظرية المحاكاة فهي تفوق الحصر، ومن أبرزها: فن الأدب المحاكاة، لسهير القلماوي (1953م) والنقد الأدبي عند اليونان، لبدوي طبانة (1965م) ونظرية المحاكاة في النقد العربي القديم، لعصام قصبجي (1980م) ونظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين لألفت كمال الروبي (1983م).
وأتصور أن مبدأ الواقع أو الطبيعة أول مدخل لفهم نظرية المحاكاة. فالفن عند أفلاطون، كما عند أرسطو محاكاة، وهي محاكاة للواقع أو الطبيعة أي للعالم الحسي. ولهذا برزت قيمة الحقيقة وكيفيتها الفنية في نظرية المحاكاة، فأفلاطون ينظر إلى الواقع نظرة عقلانية مثالية، وهي هكذا تتخلى -كما يقول فؤاد زكريا في دراسته لجمهورية أفلاطون- عن «الطابع العرضي للظواهر المتغيرة». وقد كان مثال الكهف الذي ضربه في الجمهورية تعبيراً عن تأخر الوجود عن عالم الفكر والوعي كما هي قاعدة كل فلسفة مثالية، وهي عنده - تحديداً- تأخُّرٌ لعالم الوجود الحسي عن عالم المثل، فما ندركه من الأشياء يشبه ما يدركه أناس ينظرون إلى ظلال نار على جدران كهف، وقد أداروا ظهورهم إلى فتحته التي تتأجج أمامها النار. فهم - إذن- إنما يدركون الظلال المرتسمة على جدران الكهف فيظنونها الحقيقة، ولو أنهم خرجوا من الكهف إلى الخارج لأبصروا حقائق الأشياء وليس ظلالها. فعالم المُثُل هو الفكرة المجردة التي تسبق الوجود، والوجود هو المحاكاة الحسية لها، أي ما يساوي، في تشبيه الكهف، ظلال النار.
فإذا ما جئنا إلى الفن الذي وصفه أفلاطون بأنه محاكاة، فإنه يغدو محاكاة للوجود الحسي الذي هو بدوره محاكاة لعالم المُثُل أي للفكر المجرد. فالفن - إذن- مرآة تعكس العالم المادي وليس الفكر، والسطحي وليس الجوهري. ولفظ المرآة عنده محوري في تصور ماهية الفن ودوره، وهو ما أفضى بالمحاكاة بوصفها ماهية الفن لديه إلى دلالة التقليد أو النقل الحرفي وأحالها من محاكاة المعاني إلى محاكاة الأشياء، ومن القيمة الجدية للفعل الفني إلى اللعب الفارغ من كل قيمة. وقد تضاءلت - والأمر هكذا- قيمة الفن وتلاشت لدى أفلاطون، فهو محاكاة لمحاكاة، وبذلك أصبح صورة مشوِّهة ومزيِّفة للحقيقة وهي المُثُل المجردة، لأنه بعيد عنها ثلاث مرات، وهي المذكورة في المثال الذي يضربه للفنان المصوِّر للسرير في الكتاب العاشر من الجمهورية: فعندنا ثلاثة سُرُر، أولها سرير موجود في الطبيعة صنعه الله، والثاني صنعه النجار، والثالث هو الصورة الفنية التي رسمها المصوِّر.
هكذا يصبح احتقار أفلاطون للشعر مسبَّباً عن خلوِّه من المعرفة بالحقيقة، وهي القيمة الجوهرية لديه للكلام ولكل أنواع الفن، وفي هذا يقول: «إن من لا يعرف الحقيقة، بل يقتصر على اتباع الظنون لا يصل إلا إلى فن مضحك بل إلى فن لا ينطوي على أية قيمة على الإطلاق». لكن احتقار الفن لدى أفلاطون بالإحالة على علاقته بالحقيقة يتضاعف مع العلاقة بالأخلاق فالشعراء –فيما يرى- يخاطبون العاطفة والشعر «يروي العواطف التي يجب أن تجف عطشاً، وينعشها، ويحكمها فينا، وكان يجب أن نتحكم فيها إذا رمنا أن نكون أسعد وأرقى». وقد طرد الشعراء بناء على هذا من الجمهورية الفاضلة التي حلم بها فلسفياً، وكان الفلاسفة لديه هم منجم الالتماس للحقيقة وليس الشعراء، وقد استثنى الشعر الغنائي في تمجيد الفضائل والأبطال والآلهة.
وعلى الرغم من أن أرسطو كان فيلسوفاً مثالياً، تماماً كاستاذه أفلاطون، فإن نظرية المحاكاة لديه أصبحت قيمة فنية إبداعية من جهة وقيمة وظيفية معرفية وأخلاقية من جهة أخرى. وذلك لأنه تخلَّى عن تسلُّط عالم المثل وترتيب العالم الحسي عليه، فلم تعد المحاكاة شاملة الوجود الحسي والفن على حد سواء، وإنما هي مفهوم فني خالص أي مقصور على الفن. ومن هنا لم يعد الفن عند أرسطو مرآة تعكس مظاهر الأشياء، وإنما عمل يحاكي جوهرها. وفي هذا يقول: «إن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع، بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة، فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور، بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه، ومن هنا كان الشعر أقرب إلى الفلسفة، وأسمى مرتبة من التاريخ،لأن الشعر أميل إلى قول الكليات على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات».
ولم يغفل أرسطو جانب المتعة الفنية، فالمحاكاة فعل فني لأنها تؤدي متعة، وهذا يعني أنه ليس هناك فن لا يمتع. أما علة المتعة في تفسير الفن من وجهة المحاكاة فإن أرسطو يعزوها إلى الالتذاذ بالمحاكاة والالتذاذ بالوزن والإيقاع وإليهما تعود نشأة الشعر، كما تعود جاذبيته للمتلقين. لكن هذه المتعة تنطوي على الفائدة فهي متعة مفيدة أو هي فائدة ممتعة، وذلك لأن المحاكاة تؤدي إلى التعلم واكتساب المعارف، فيما هي سبيل للالتذاذ والبهجة. وقد نتج عن ذلك وظيفة أخلاقية نفسية لدى أرسطو وهي ما أسماه بالتطهير، أي بلوغ المتلقين من عواطف الشفقة على البطل، والخوف من أن يحدث لهم ما حدث له، درجة تتيح تصريف عواطفهم الزائدة وتنتهي إلى إحداث توازن عاطفي وسلوكي.
الرياض