جزءٌ من هذا العرض مُستلٌّ من دراسة مطوّلة تناقش في مجملها علاقة شاعرات الجزيرة العربية و الخليج المعاصرات بالتراث. و كما يتضح في هذه الجزئيّة؛ فإن العلاقة بين الشاعرات المعاصرات و بين القصيدة الجاهلية/القصيدة الأولى تقوم إما على هجر، أو على تطوير بعض الأغراض الشعرية لهذه القصيدة. ففي حين يمثل الهجر الإنفصال عن، فإن التطوير يمثل الإتصال بالأغراض الشعرية القديمة؛ حيث هُجرت في قصائد الشاعرات المعاصرات أغراض شعرية بعينها من مثل: (الوقوف بالأطلال، النسيب، التشبيب، الفخر،الحماسة، الحكمة) و طوّرت أغراض أخرى من مثل: (المديح، الهجاء، الرثاء).1
يقوم غرض (المديح) في القصيدة الجاهلية على مدح القبيلة، أو مدح أشخاصٍ بعينهم من أكابر القوم مثلاً؛ إما بغرض التفاخر بالقبيلة أو بغرض الحصول على المال كما هو الحال في أواخر العصر الجاهلي عند شعرء من مثل النابغة الذبياني و زهير بن أبي سُلمى و حسان بن ثابت و غيرهم . أما بالنسبة للشعراء المعاصرين فإنهم قد استعاروا غرض المدح من القصيدة الجاهلية و تحوّلوا به إلى مدح الدور الذي يقوم به المواطن العربي البسيط لمجتمعه و أمته، أو إلى مدح المرأة العربية (كما نجد في شعر الشاعرت) و ما تقوم به من أدوار كبيرة في مجتمعها؛ من مثل دور الأم، و المعلّمة، و الشاعرة، و الفنانة.
و فيما يختص بغرض الهجاء الذي كان الشاعر الجاهلي يتوجّه به إلى أعداء قبيلته تحديداً؛ فقد تحوّل به الشاعر المعاصر إلى هجاء الأوضاع الاجتماعية، و السياسية في الوطن العربي بصفة عامة. و الطريف أيضا في الأمر أن بعض الشاعرات المعاصرات قد توجهن من خلال هذا الغرض إلى هجاء الأزواج.
أما غرض (الرثاء)، الذي تمثل سابقا في رثاء أشخاص بعينهم من علية القوم، أو من الأقارب و الأهل (الأب، أو الأخ كما هو الحال عند الخنساء)؛ نجده قد تحوّل في القصيدة المعاصرة إلى رثاء العروبة و القوميّة، و بكاء العالم العربي و ما يمرّ به من مآسي و نكبات.
و يبدو أن ما سبق فيما يختص بالهجاء و الرثاء كائنٌ أيضاً في شعر الشعراء المعاصرين و ليس الشاعرات فقط. و مثالُ ذلك (فيما يختص بغرضي الرثاء و الهجاء في آن) قصيدة «ترتيلة الشروع في نسق الفداء» للشاعر السعودي عبد الله الزيد، التي يتحدث فيها عن الأقصى الشريف و قضية فلسطين التي تمثّل وجعًا في خاصرة العروبة، و هو في ذلك يرثي الوضع العربي المتقاعس عن نصرة الحق، و يهجو الأوضاع العربية الغارقة –كما يرى في قصيدته- في اللهو و الانشغال بالمتع الزائفة، يقول في مقطع من هذه القصيدة الطويلة: (2)
«وحدها..
الأخبارُ تبكي..
و تعاني..
و تموتْ
وحدها..
الأخبارُ
من أرضِ الرزايا
و المصير
تحرقُ الأخضرَ في قلبِ الحقيقة..
وحدها ترثي ثرانا..
ثم تصطكُ بأحزانِ النذير»
يتحدث الزيد في المقطع السابق عن الأخبار المحزنة التي تبثها وسائل الإعلام عن الوضع المبكي في فلسطين؛ حيث تحوّلت هذه الأخبار داخل النص إلى شخص يبكي و هو يرثي الثرى العربي الضائع، ثم يصطدم بأحزانه التي تنذر بمزيدٍ من الأسى «ثم تصطك بأحزان النذير».
ثم ينبري في هجاءٍ مرير للأوضاع العربية المنصرفة إلى اللهو و العبث الذي تجسّده من جهةٍ أخرى وسائل الإعلام أيضا؛ فبعد أن تنتهي نشراتُ الأخبار الموجِعة يتلوها لهوٌ تغيبيّ، و انصرافٌ تام عن حقيقة الوجع العربي، يقول:
« و تدلّى العهرُ
من كل الوجوه
عبر شاشاتٍ
بلا طعمٍ بهيٍّ
و بلا لونٍ لذيذ
و بلا نشرٍ..
يُعيدُ الطيبَ من نارِ الحميّة..
عبر شاشاتٍ
تحاشتها الصفاتُ اليعربيّة..
هربتْ كلُ النعوتِ الأريحيّة».
و يقول في مقطعٍ آخر من القصيدة ذاتها:
«تنتهي الأخبارُ
من بين الضحايا..
و السبايا..
فيضجُ الرقصُ
و الهزُ..
و تنسابُ الأغاني
و كأن الأرضَ..
و الإنسانَ..
و الأعراضَ
ليست من خلايانا
و ليست من بقايا همِنا الطاغي المرير»
و في المقاطع السابقة كما في كل هذه القصيدة- بصفةٍ عامة- ما يوضّح الاتصال بالقصيدة الجاهلية من خلال تطوير الشعراء المعاصرين لغرضي الرثاء و الهجاء الملازمين لقصيدة الشاعر الأول (الشاعر الجاهلي) إلى رثاءٍ و هجاءٍ يتناسب و يتماشى مع الحاضر و الوضع الراهن الذي يعيشونه.
وهكذا، فبالرغم مما قد (تزعمه) القصيدة المعاصرة من انفصال عن خطى الشعراء الأقدمين؛ فان الإتصال بتلك الخُطى واضح جليٌّ في شعر هؤلاء الشعراء الذين تبنت قصائدهم عبق الأصالة و روح المعاصرة في آن. حيث يشير ملمح الاتصال بالتراث (الذي تمثله القصيدة الجاهلية هنا) إلى الرغبة في تأكيد الهوية العربية؛ و ذلك من خلال العودة إلى الذات وإلى الماضي الذي يمثّل الأصالة؛ بمعنى أن عنايتهم بالتراث الشعري ممثلا في القصيدة الجاهلية لم تكن فقط لمجرد الرغبة في تتبع خطى أجدادهم من الشعراء الجاهليين، أو بمعنى آخر تقليد القصيدة/المثال (القصيدة الجاهلية). فضلاً عن انهم أضافوا بذلك الاتصال نكهة زمنيّة لقصائدهم المعاصرة؛ إذ جعلوها قريبة من المتلقي العربي الذي ألفت ذائقتُه القصيدة الجاهلية/القصيدة الأولى، و في الوقت ذاته فإنهم وهبوا القصيدة الجاهلية- بواسطة هذا الاتصال الشعري- حياة جديدة واستمرارية في ذهن المتلقي المعاصر.
إن (النستولجيا) و الحنين إلى الماضي (كنوع من أنواع الاتصال بالماضي) مجدولة بقصائد الشعراء المعاصرين، و إلا ما معنى أن تتمنى شاعرة معاصرة (في قصيدتها) أن تعود إلى الماضي: بدويّة تزيّن عينيها بالكحل و تشعل النار لصنع القهوة. تقول الشاعرة ظبية خميس في قصيدتها (ذكرى ناقصة): (3)
هواءُ البر
صقرٌ بجناحين
ويدٌ تنتظره
يحطُّ عليهما، مطمئنًا.. آمنا
ثوبٌ محفوفٌ بغبارٍ طاهر
عشبٌ عابث ينبت بين القدمين
إذ تمشيان
عسلٌ، ويقط
خزامى، وسدر منازل بلا جدران
خيام الصوف
والهواء الذي يهبّ
من الجهات الأربع
لو أنني الآن مكحولة العينين
التي تشعل القهوة هناك
أو ترفع دلو الماء
من البئر المنسيّة..
هناك.
في هذه القصيدة، تتجلى عدد من الثيمات المرتبطة بالصحراء و حياة البداوة؛ كالصيد، و هواء البر و غيرها. و هي تُظهر مجتمعة داخل هذا النص حنين الشاعرة إلى الصحراء. فهواء البر هنا هو كصقر بجناحين يحط باطمئنان بعد تجواله في الأفق بحثاً عن الطريدة على كف الصياد الذي ينتظره بعد أن جرّب قدرة صقره على العودة. و هواء البر هو ثوبٌ طاهر، و هو « عسل، ويقط و خزامى و سدر» و هو خيمة الصوف المفتوحة بحرية كبيرة على الجهات الأربع. في كل هذه الأجواء البدوية الخالصة تتمنى الشاعرة أن لو كانت تلك الفتاة مكحولة العينين التي «تشعل القهوة هناك/ أو ترفع دلو الماء/ من البئر المنسيّة».
ومن جهةٍ أخرى، فقد كشفت علاقة الشعراء ببعض أوجه القصيدة الجاهلية عن علاقتهم المعقدة و المضطربة بالماضي؛ حيث يظهرون فيما يختص بملمح الانفصال عن (القصيدة الجاهلية) رغبة كبيرة في السير نحو المستقبل بعيدا عن خيمة التقاليد الشعرية القديمة؛ أي بعيدا عن ما يُمثّل الماضي.
أيضاً و فيما يتعلق بملمح الانفصال عن (القصيدة الجاهلية) نجدهم يؤكدون –في قصائدهم- على أن الحاضر الذي يعيشونه يجب أن يكون مرتبطا وموصولا بالماضي؛ وكأنهم يبحثون بذلك عن طريقة يعيشون وفقا لها في حاضرٍ يمكن أن يجتمع فيه أفضل ما في الماضي وأفضل ما في الحاضر، فهل يمكن أن يتحقق ذلك و لو شعراً؟
***
1- أشجان هندي، Engagement with Heritage in the Contemporary Poetry of Women in the Arabian Peninsula، رسالة دكتوراة، جامعة لندن، 2005.
2- عبد الله الزيد، آه من سطوة الفقدان آه من موت العبارة، النادي الأدبي بالرياض و المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، ط1، 2009، ص 19-40.
3- ظبية خميس، تَلَف، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 1999، ص 22-23
جدة