لا شيء يعطل حركة التغيير في بيوتنا مثل العاطفة، ولا شيء يشعل غضبنا السريع من أي نقد يوجه للبيوت إلا بسبب عاطفة جارفة تعجزنا عن الإنصات وتفقدنا التوازن، إنها العاطفة التي تحكمنا وتوجه اختياراتنا وسلوكياتنا، إنها العاطفة التي يعلو صوتها ويغيب أي صوت آخر، حتى يبدو الصوت الآخر مهما كان حقاً نوعاً من الخيانة للبيت وسعي لهدمه وهز أركانه.
يحدث أن تملك العاطفة القدرة على المحاكمة واتخاذ القرارات عندما تكون وحدها الصوت الذي يسيطر في البيت، عندما يصبح الجميع محكوم بها لقوتها وسطوتها، العاطفة التي تبدأ بالأب لا تنتهي بعمالة المنزل بل تمتد في كل الأوساط الاجتماعية حتى تتمكن من الدولة ومؤسساتها.
ورغم أن الكلام عن العاطفة في البيوت يأخذ شكلاً حالماً وجميلاً إلا أنه في الواقع يمارس قهراً وإذلالاً لكل أفراد العائلة، ليس الحديث هنا عن العنف الأسري الذي يمارس باسم التربية الحازمة أو تطبيق معاني تأديب الزوجة، بل الحديث عن العنف النفسي الذي يمارس في بيوتنا باسم الحب والعطاء والأقدار والعادة، العنف الذي يجفل قلب الفتاة من مجرد التساؤل عن نصف حقها المالي الذي يعادل تجهيز أخيها ليكمل نصف دينه.
العاطفة التي تخيف الأب من هاجس اللوم الاجتماعي إذا لم يتحمل كلفة تأمين حياة كاملة لأبنائه الذين اكتمل نصيبهم من الحياة وعقدهم من العمل وعمر الاستقلال الفردي، العاطفة التي تأكل قلب الأم بالصمت والخوف من ألم الأبناء إذا ما أرادت يوما الطلاق من ذلها.
العاطفة في الإنسان دائما ما تجيء من فكرة غير معروفة، بمعنى آخر العواطف لا يعرف صاحبها أسبابها بشكل واضح، ولهذا يتداخل الخوف والكره والحب والرضا على الذات من عدمه في شعور واحد، وحين يتصرف الإنسان مدفوعا بهذه العاطفة الجياشة فهو لا يعرف إن كان يميز بين خوفه ورغبته أو بين حبه للآخر وكرهه لنفسه أو عدم رضاه عن ذاته، فالأب الذي يصادر حق ابنته في الزواج من رجل ما لأنه يشعر بعدم كفاءته لها، لا يميز بين حبه لابنته وبين كرهه لغيابها عنه، وبين عدم رضاه على ذاته ما يعني استحالة رضاه عن الآخر، لن يميز هذا الأب أن رفضه جاء من خوفه الشخصي من تجربة الزواج بكل ما تحمله من جديد ومن ضعف همته في تحمل مسؤولية السؤال والبحث وبين حبه لابنته الذي يتخذه سببا.
أخطر ما في العاطفة أنها تبدو بسيطة ومباشرة وهي معقدة جدا ومتداخلة، حب الآباء لأبنائهم، حب الأخوة لبعضهم، عواطف يسهل ويتكرر الكلام عنها كما لو كانت أعداداً ثابتة القيمة، بينما هي في الحقيقة كلمات ومرادفات تحمل كل التعقيد الإنساني منذ لحظة ميلاده حتى آخر لحظاته، تحمل الصور التي التقطتها عيناه قبل أن يعرف ألوانها، تحمل الأصوات التي باغتت حواسه عاجزا عن فهمها، هذه العواطف براكين لا نعرف إلا رؤوسها، لا نعرف حمم النار فيها من خوف وحزن ورفض وحقد وعجز ورضا.
العاطفة بعمومها حالة معقدة وليست بسيطة في نظر علوم النفس الإنسانية، وعواطف الإنسان تجاه عائلته ذروة هذه الحالة المعقدة، وبيوتنا تحديدا تصبح فيها المعادلة أشد وأخطر تعقيداً، ذلك لأنها عاطفة مزيفة وشكلية حاكمة وآمرة من طرف، وعاطفة حقيقة وصامتة وعاجزة من طرف آخر، وما بين الصورة الشكلية للعاطفة التي تحكمنا وبين حقيقة عواطفنا الخفية، نعيش في بيوتنا مزدوجين ومتناقضين وعاجزين دوما عن فهم أنفسنا والحياة.
الرياض
lamia.swm@gmail.com