دراسة أو تحليل فن الصحراء والانغماس فيها بحثاً عن أبعد نقطة في أسرار هذا الواقع، ينقلنا فيه الفنان السليم من حال الرؤية المباشرة بالعين المجردة إلى عالم من التخيل وإنشاء عالم افتراضي ينطلق من مخزون بصري لهذه البيئة، لا يكفي أن نتحدث عنه في مثل هذه المساحة أو بهذا الجهد المتواضع بقدر ما يحتاج إلى أن يكون هذا البيان أو الدراسة أو التحليل مدخلاً لبحث أكثر تفصيلاً وتفسيراً لكل عبارة جاءت في ما تحدث به عن الصحراء وفنونها التي استلهم جزءاً منها وليس كلها في أعماله معلناً ولادة إبداع سعودي الأصل والمنشأ مهما تشابهت أو سبق أن تداول التشكيليون في العالم الصحراء كل في بيئته، لكن الفنان السليم استطاع ان يستخلص خصوصيتنا المحلية وان يضع الخطوط تحت كل ملمح جمالي يميز صحراؤنا عن الأخرى ليس بالشكل ولكن بالانتماء الذي شكّل منه الفنان السليم مجموعة من اللوحات غنية بالمعاني والمعبرة عن المفهوم للفكرة التي انطلقت منها تجربته الآفاقية.
هذه الدراسة والبحث يستحق ان يكون مادة هامة للدراسة والتطوير ليصنع من فن الصحراء منتجا إبداعيا يمثل الخصوصية كما اشار اليها السليم بالانغماس في اسرار الجمال فيها والغوص في اعماقها وصياغة انماط وابداعات تتكيء على عالم الصحراء الجمالي بكل ما فيه فهي ينبوع لا ينضب ولو مد الخالق للراحل السليم عمراً لشاهدنا نقلات وتنوعاً لا يتوقف عند حد كما توقفت كثير من التجارب المحلية والعربية.
قراءة في بيان فن الصحراء
أعجبتني عبارة جاءت في كلمة البروفسور الايطالي رينسو فيدريتشي في الموسوعة الايطالية التي أدرج اسم وتجربة الفنان السليم ضمن عدد من ابرز التشكيليين الايطاليين والعالميين، حينما قال عنها، (انه شيء يشبه اكتشاف الإنسان لنفسه في عالم لا احد فيه الا هو، يواجه فيه هدوءاً وفراغاً لا نهاية لهما ولا يمكن قياسهما، إنه هدوء يذكرك بالأبدية والخلود).
من هنا وبهذه العبارات المقتطعة من كلمة وافية عن تجربة الفنان السليم بقلم ناقد عالمي يمكن لنا ان نبدأ اقتناص بعض من الجمل التي تشكل فكرة البحث النظري المطبق عمليا من خلال اللوحة واعتبار الصحراء منبعاً لا ينتهي ومصدر الهام لا ينضب. يقول الفنان السليم في بعض ما جاء في بيانه:
(ففي التلال وانسياب الأودية ما يخفف قسوة الصحراء وفي حفيف الشجر ورنين لصدى بين الجبال أنغام تغذي روح الإنسان، بالمشاركة الوجدانية، فالإنسان في الصحراء لا يحس بالوحدة الانعزالية لان الطبيعة تشاركه حياته.) وصف يحرك في المخيلة أكثر من شكل ونمط إبداعي يمكن تشكيله بأي خامة لينتقل بنا إلى جملة أخرى حيث يقول: (إن تطبُّع إنسان الصحراء بطباع جديدة كأنه اخذ خصوصا غير خصوصيته، ومن خرج من خصوصيته فقد ترك هويته الحقيقية إلى حيث لا هوية، وهذا الشيء الذي لا يمكن حدوثه أبدا، لان الطبع بطبيعته يغلب دائما التطبع، ولذلك فلا بد لكل إنسان من هوية تحمل طباعه وخصوصياته الذاتية التي نشأت معه في بيئة معينة منها وفيها تظهر القدرات والمواهب الذاتية لتعطي إبداعاتها الحسية الصادقة تجاه الحياة.) تأكيد من الفنان السليم على الهوية وتمسك بالمؤثر وإذعان من المتأثر بأهمية واقعه وبيئته، ولم يتوقف الفنان السليم عن تحريك مكامن الجمال في الصحراء إذ يقول في بيانه عن فن الصحراء: (أمام الفنان التشكيلي في الصحراء مرتع خصب يغني تفاعله الوجداني بروح الصحراء أنغامه إيقاعات خطية ولونية وبما تحتويه من عناصر الحياة في الكتلة والفراغ، تظهر إبداعات فنان الصحراء حالة الطبع - الهوية - ولا تحمل التطبع - التجنس -) ولم تفت على الفنان السليم ما يمكن ان يتوقعه البعض أن في استلهام فن الصحراء ما يبعده عن إبداعات أخرى لها حضورها ومصادر استلهامها فأشار في بيانه قائلاً: (وجدت خصوصيات ومميزات الفنون العربية (أرابسك) والفنون الإسلامية لا تخرج عن تلك المميزات الذاتية لفنون الصحراء ولا تتعارض معها، وفي الآثار الباقية من إنسان الصحراء على مرّ الأزمنة في التاريخ البشري نجد التبسيط في الوحدة مقابل صعوبتها والاختصار مقابل التركيب، التجريد مقابل المحاكاة، والتجديد مقابل التقليد... إلخ، في فنون الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وكافة البلاد العربية والإسلامية.) أما الأجمل والأكثر بلاغة في وصف جمال فن الصحراء وقدرته على تحويل المشهد المرئي إلى صور بلاغية يمكن للفنان نقلها إلى العمل الفني ما جاء في إشارته التالية (فمع الصدى سمعاً.. نرى السراب رؤية.. ومن خلالهم تتفاعل أحاسيسنا وجداناً، ففي السراب انعكاسات الشفافية اللونية ومن الصدى ترديد الدرجات (التونية) للألوان بعد أن تصفو أمامنا الملامح - وضوحاً - للموضوع المراد تنفيذه عملا فنيا يتميز - إبداعا بخصوصية الهوية الصحراوية.) ولم يكتف الفنان السليم بشرح إيحاءات الصحراء وتأثيرها البصري والوجداني بل توقف برهة لها أثرها النفسي والروحاني حينما قال: (وليس هناك في الحياة ما هو ألذ متعة من عناء المعاناة الصادقة بالمعايشة الحقيقية لقسوة الحياة حتى تتحول من اشد حالات القسوة إلى ألذ حالات اللين والهدوء مع لانسجام فيما بين السفح والقمة في مشاعر الإنسان تجاه الطبيعة وواقع الحياة بموهبة إنسانية ناضجة الحس والمشاعر الوجدانية النابضة بالإدراك الواعي لقدرة الله الخالق ذي الجلال والإكرام.) ليختم بيانه بالقول والتفسير والتوجيه والوصف: (أسلوب فن الصحراء، يرتكز الموضوع فيه على امتداد خط الأفق (يمينا ويسارا) بحيث يعطي الامتداد اللا نهائي بدرجة تجعلك تنتظر بقية الموضوع فيما بعد الإطار، إلا أن وسط الأفق بين إطار اللوحة يحمل التكثيف الأكثر لإبراز العناصر المهمة للموضوع.
أما صدى السراب والضباب للموضوع فيظهر أسفل وأعلى الموضوع ليكون غلافا من الترديد لأنغام وإيقاعات توحي بحيوية فكرة الموضوع ونبض المشاعر الحسي تجاهه.
بإيحاءات لونية لا نهائية تتناسب مع لا نهائية الامتداد الأفقي. وبذلك نحصل على عمل فني يحمل مزايا الامتدادين الأفقي والرأسي بلغة الصحراء في سعتها وامتداداتها اللا متناهية في جو يكون في الهمس صوت واضح وفي اللون تمازج وتناغم بإيقاعات تشارك نبض قلب الإنسان لتسمع أصداء الأصوات فترى ذبذباتها ترددات لونية لا متناهية.
فن الصحراء وتفعيله سياحياً
أجزم أننا في حاجة لمثل هذه الدراسة والتحليل الذي يجمع بين كشف لأسرار الجمال في الصحراء وبين ان تكون هذه الفنون مصدر تشكيل هوية وخصوصية يمكن بها مساندة التوجه السياحي الذي بدأت معالمه تظهر في الكثير من المواقع والاهتمامات، واعتقد بكل ثقة ان في جعل مثل هذا البيان وتلك التجربة (الآفاقية) منطلقا لدراسات أخرى تختص بالفنون التشكيلية تقوم عليها هيئة السياحة وتجعل من تجربة الراحل السليم منطلقاً لها لتشمل كل ما في الصحراء من إبداع بيئي طبيعي أو منتج بشري.
التجربة وأقسام التربية الفنية
ولا أنسى هنا ما أشرنا إليه في الحلقة السابقة عن أهمية أن تكون هذه التجربة جزءاً من محاضرات ودروس أقسام التربية الفنية وأن تُؤخذ كمنطلق للبحوث والدراسة والانطلاق منها إلى آفاق أخرى نحو إيجاد معالم جديدة تؤكد الهوية التشكيلية.
الأسبوع القادم:
(توظيف الفنان السليم (الآفاقية) خدمةً لمواضيع وأفكار لوحاته)
monif@hotmail.com