الاغتراب في الفكر العربي والإسلامي.. عبر القطيعة الجزئية أوالكاملة مع الناس أوالمجتمع أوالأمة.. لم يكن حالة خاصة بتيار بل تجاوز كل التيارات وكان حاضراً في الكثير منها.. وحيث إن المقالات السابقة تناولت الاغتراب كمفهوم.. ثم الاغتراب السلفي..والاغتراب الصحوي.. فإن الجناح الإسلامي أيضاً وغير الإسلامي يحمل تياراً هو الأكثر جذرية.. تيار الاغتراب الرافض.. أو كما سماهم رفعت السيد «الرافضون».
تماماً كما كانت الماركسية الحركية المبتذلة صانعة الاغتراب.. فإن هذه الحركة الإسلامية الرافضة اجتلبت معها من ضمن ما اجتلبت من النشاط الحركي الماركسي المتقدم في العمل الحركي والإيدلوجي آنذاك كثيراً من المظاهر والمشاكل المفهومية.
يوم أن كان الأداء الحركي في الماركسية متقدماً بمفاهيمه وأيدلوجيته ونظرياته.. بدأت «الحركة» الإسلامية فقيرة وتحولت حركية.. مؤسلمة لبعض المفاهيم الغنية إيدلوجياً في الماركسية وغيرها وتسربت الكثير من المفاهيم الماركسية المعروفة بل والمصطلحات الحركية الماركسية والقومية المبكرة للتيار والحركة الإسلامية بالتحديد «التيار الرافض» وهو الجناح الذي أسس ومهد بشكل أو بآخر للتيارات الجذرية في تعاملها مع المجتمع والناس والعالم.. والتي لاحقاً أدّت في النهاية لجماعات التكفير الكلي.. و»الهجرة» من المجتمع بأسره.. وهي حالة اغترابية شرسة وتطور مَرَضي لافت. تماماً كما كانت هناك ثوابت ومتغيرات حركية في الماركسية والقوميات.. تأسست ثوابت ومتغيرات حركية إسلامية.. (وهي بكل تأكيد ليست فقط الثوابت الدينية الإسلامية فحسب.. بل هي فوق ذلك ايضاً «ثوابت حركية» للمجموعة المنتمية).. وكما كانت الماركسية الحركية تؤسس للطليعة المؤمنة بالعدالة الاجتماعية.. تحدث الجناح الرافض عن «طليعة مؤمنة».. وكما تسربت أفكار العدالة الاجتماعية التي كانت بدايات كتابات سيد قطب فيها.. فإن «الطليعة» وغيرها كانت كذلك ثم لاحقاً لن يعدم الجناح الرافض من قياسات واستباطات تارخية معينة لتبرير هذا المفهوم أو ذاك.. وكما كان الالتزام الماركسي والقومي.. كان الالتزام الإسلامي الذي تحول لاحقاً لمظاهر فرز حركية.. وكما كان «ماركس» يتحدث عن الاغتراب في مجتمع رأسمالي (جاهلي حسب الوصف الماركسي).. فإن سيد قطب في «معالم على الطريق» الذي يعتبر إنجيل حركات الرفض الإسلامي.. أسس لمفهوم «المجتمع الجاهلي» الذي ستنبثق منه هذه «الطليعة» المؤمنة.. التي تمارس «العزلة الشعورية» -حسب ما يتحدث سيد قطب- والتي سماها ماركس في أبكر تجاربه.. ب»الاغتراب عن المجتمع الرأسمالي» وكلاهما يقصد تأسيس القطيعة مع هذا المجتمع الجاهلي.. والاحتراب «الشعوري» معه.. والذي ادّى لاحقاً إلى حتى الاختصام المباشر والعنيف.. مع هذا المجتمع.. بل وإلى عدم الاعتراف بالمجتمع وبوجوده عبر «الهجرة» منه كلياً..ومع أنها في الأساس كانت «هجرةً» مفهومية شعورية كما أراد لها سيد قطب.. إلا أنها تطورت لتصبح هجرة جسدية واقعية.. تستلهم «أهل الكهف» الذين آمنوا فعاشوا في كهفهم «ثلاث مئةٍ سنين وازدادوا تسعا» كما يخبرنا القرآن.. فهذه الطليعة تستلهم تلك الفتية المؤمنة لكن الذي تقفزه حركة الإسلام الرافض أن تلك الفتية المؤمنة من أهل الكهف لم تكن تسعى وتؤسس لحالة «الكهف» ولا الاعتزال.. بل هي شأن عارض تماماً فرض عليهم جراء التنكيل والاضطهاد.. حالة اضطرار خالص تنتهي بنهاية تلك الضرورة.. وبالعموم فليس المقام ملائماً للسجال العلمي حول آليات الاستدلال.. ولكنه محاولة لعرض مفاهيم متعددة بدءاً بفكرة «الحركة» التي جاءت للفكر الإسلامي و»العزلة الشعورية» و»المجتمع الجاهلي» و»الثوابت الحركية والمتغيرات» و»الطليعة المؤمنة» و»حتمية الحل الإسلامي» مقابل الحتمية التاريخية-الفكرة الشهيرة لماركس ومفهوم «الالتزام» إلخ.. كلها كانت مفاهيم حركية ماركسية متقدمة تسربت بوضوح شديد ولم يجد الآباء المؤسسين للحركة الإسلامية ولا لحركة الرفض الإسلامي بالخصوص أي مشكلة في استعارتها وتسريبها والعمل عليها.. ولكن المفارقة.. هذا كله يحصل في الوقت الذي تتم فيه حروب لاهوادة فيها على مفاهيم «التغريب» والتأثر بالغرب وفلسفته.. بل وربما يتم حرب المجتمع كله من أجل أنه تم «تغريبه» في الوقت الذي تستعمل حركات الرفض الإسلامي هذه المفاهيم الماركسية الحركية والغربية الخالصة..!
والشيء الذي نقده فيبر على ماركس بأن ماركس أسس لمجموعة حزبية تصنع اغتراباً أشنع من الذي يدينه ماركس كان يمكن لحسن الهضيبي مثلاً أن يقول الشيء نفسه عن سيد قطب.. في التجهيز الشعوري والنفسي لحالة «عزلة شعورية» واضحة عن المجتمع والهروب منه.. الاغتراب الرافض هو ذلك الجناح الإسلامي الذي يختار الاغتراب عن المجتمع عوضاً عن الاقتراب منه.. والخصومة مع قضاياه عوضاً عن تبنيها وال عمل عليها.. والحرب على خبزه ولقمة عيشه لأنه يعيش في «مجتمع جاهلي» ليقابله مفهومٌ أكثر تقارباً مع الناس ودفاعاً عن لقمة عيشهم وخبزهم.. هي المسافة بين الاقتراب والاغتراب.. بين الرفض والاندماج.. ففي الوقت الذي يقدم فيه المفكر الإيراني علي شريعتي مفهوم «العودة إلى الذات»..وهو الشخص القريب فكرياً ومفهومياً من سيد قطب.. كان هذا الأخير يتحدث عن «العزلة الشعورية» و»المجتمع الجاهلي»..
ولذلك كان تيار الرفض هذا يجهز على المدى البعيد لاستقطاب العنف.. ولإتاحة مجال رحب للتكفير والحكم على الناس.. وهذه بالتحديد هي حكاية الاغتراب الرافض: حكاية تيار إسلامي جهز شعورياً ونفسياً لرفض المجتمع وتجهيله.. والاحتراب معه.. فهناك مشوار طويل للاعتراف بالناس.. وبتاريخهم.. وبإسلاميتهم.. والعمل على قضاياهم.. وتبنيهم لأجل مجتمع أفضل وأكثر عدالة وتنمية.
aalodah@hotmail.com
أمريكا