لمكة المكرمة التي أنعم الله عليها بعدد من الأسماء، فهي مكة، وأم القرى، والبلد الأمين الذي أقسم الله به، ثم شرفها بأن جعلها مقراً لبيته المحرم ومكاناً لمولد سيد الأولين والآخرين ومبعثاً له، ومهبطاً للذكر الإلهي الحكيم أسمى مكانة في وجدان المسلم أنى كان في مختلف بقاع الأرض، بل إن المسجد الحرام على ثراها الطاهركان الجامعة الأولى في العالم إنجاباً للعلماء والفقهاء والنابغين في علوم الدين الذين أناروا السبل لمسلمي العالم، ومن المعاصرين فيهم الشيخ عبد الحق المحدث وإبنه الشيخ أبو تراب الظاهري والشيخ اليماني والشيخ الكتبي والشيخ ابن حميد والمالكي.. وأحمد الله أن من علي بالعيش في بطحائها وأوديتها المقدسة وقريباً من بيته المحرم سنين عديدة من عمري، حيث شهدت بقية من معالمها الدينية والحضارية، ويكفيها شرفاً أن بها الحرم الشريف الذي يتوافد عليه ويهوي إليه أرتال متعاقبة على مدار العام من الحجاج والعمار وكلهم يدعو لها بمزيد من التشريف والإعمار، وقد سبقت أم القرى غيرها من مدن وقرى الجزيرة العربية كبقعة نما فيها الأدب وترعرع فيها الفكر وازدهرت فيها الثقافة، وبرزت فيها كفاءات ثقافية ليس لها نظير يوم كانت وسائل التثقيف معدومة في غيرها، وقد أنشأ عدد من أدبائها ما عرف ب(المركاز) في حي المسفلة، حيث كانت النخبة الثقافية المكية تلتقي عليه في الأمسيات لتبادل المعلومات والمطبوعات الثقافية التي تصل إليهم من مصر، والشام، والعراق، مشكلين بذلك أول نواة للأندية الأدبية الحالية، وإن كانت النواة المكية أكبر تأثيراً وأسمى منهجاً من بعض الأندية الحالية التي استحوذ عليها بعض من ليس لهم علاقة بالأدب نتيجة لثغرات الضعف الإداري في الجهة ذات العلاقة، ثم إنها أول مدينة في جزيرة العرب تصدر مطبوعات دورية صحفاً ومجلات وكتباً، والبلد الأمين هو من أنجب أعلام الرعيل الأول من الأدباء المبرزين على طريق الحرف والكلمة كالصبان، والخوجة، والسباعي، والعمودي، وعريف، والجمالين، والغزاوي، والزمخشري، والعطار، والآشي، والعامودي، وغيرهم من رجالات الأدب الذين أثروا في حياة جيلهم أيما تأثير ورسموا معالم الطريق للأجيال التي تلتهم.. وفي نطاق التغذية يعد الطبخ المكي الأجود نوعية ومذاقاً وفائدة، ولقد كان من أشهر مطاعمها (مطعم مصطفى الشامي) الواقع بجوار (زقاق الصوغ) مما يوالي سوق الليل، عندما كان الناس يتوافدون إليه زرافات ووحداناً للاستمتاع بما يقدمه من أصناف الخضار المعد بإتقان عجيب، ولو أردت الحديث عن المائدة المكية في شهر رمضان المبارك لأتيت بالعجب من كثرة الأصناف التي تحتوي عليها من فنون الأطعمة والمشروبات الرمضانية، فالشوربة والسنبوسك التي نراها في جميع مناطق المملكة هي مكية الأصل والمنشأ، ناهيك عن الساقدانة والماسية التي لم تتعد أسوار البلد الأمين كغيرها، والتطلي والمهلبية، من صنع ربات الحجى في مكة، وقد أصبحت معروفة في أرجاء الوطن بدرجات متفاوتة من الجودة، إلا إن تناولها في مهدها الأول يظل مختلفاً عن غيره، وهل ننسى مونة العيد، أعني الدبيازة والزلابية التي تعد بمثابة التموين عندما تقفل الأسواق طيلة أيام العيد الثلاثة، وأعجب ما يصنعه المكيون في هذا الصدد هي أكلة العزاء المحصورة في مادة (الرز بالحنبص) دون سواها، إذ لا تكاد تطبخ طوال أيام السنة.. ولو شئت الحديث عن اللبس المكي لقلت إنه الأفضل من غيره، ويكفي أن الثوب المكي انتشر بسرعة مذهلة في مختلف مناطق المملكة، وحتى في دول الخليج العربي، على حساب غيره من اللباس، لما يتمتع به من تصميم متفرد وغير مسبوق يكسب مرتديه قدراً كبيراً من الأناقة، وكان أهل المدن الحجازية يتجهون إلى مكة لإعداد ثيابهم لدى الخياطين المتمكنين في مكة قبل أن ينتشر الخياطون المدربون على الصنعة في البلد الأمين.. والتجارة أول ما نشأت في مكة المكرمة قبل غيرها حد أن البضائع تصل إلى جدة عبر الميناء وتأخذ طريقها مختومة إلى مكة، فلا يلبث أن يلحق بها تجار جدة ليحصلوا على حصصهم ويعودوا بها إلى جدة، ولا يزال بين ظهرانينا من يذكر محلات التجار المكيين من أمثال باكدم وباحمدين والبسام والجفالي وباسنبل وفقيه، وكثيرون غيرهم.. ليس ذلك فحسب، وإنما جبل المجتمع المكي على التكافل والتواصل والفزعة الإيجابية، كالغيرة على حرمة الجيران وإغاثة المنكوبين ومساعدة من يستحق العون على أمور الحياة، يفعلون ذلك باندفاع عجيب وعن طيب خاطر، وما أروع المكيين وهم يهرعون في أعقاب السيول المدمرة للقيام بتطهير الحرم الشريف من مخلفاتها وإصلاح ما تتلف من مرافقه حتى يعود لما كان عليه قبلها حيث يفد سكان كل حارة على حدة رافعين أصواتهم بالأهازيج الحماسية على إيقاع الطبول، وقد شهدت بنفسي واحداً من أعتى السيول التي مرت بمكة المكرمة وتسمى سيلة الأربعاء، كان ذلك في منتصف الثمانينيات من القرن الهجري الماضي، وقد ذهب ضحيتها عدد ممن جرفتهم المياه تحت المسجد الحرام ورأيت حالات الإنقاذ بعد ما امتلأ صحن المطاف بالمياه إلى حدود باب الكعبة المشرفة، ولو تتبعت الحكم والأمثال المكية لما استطعت حصرها ولكني أكتفي بعدد منها كقولهم (لا محمد في الكتاب ولا فاطمة ورا الباب) يعني أن رب العائلة يعيش مع زوجته فقط وهنا تكون مصروفاته غير مرهقة، أو (الذي ما يشوف من الغربال أعمى) يعني الذي ما يعالج المواقف من كافة الوجوه تظل معالجته لها مبتورة، وقولهم (كب الجرة على فمها.. تطلع البنت لأمها) وهذا واضح لا يحتاج إلى شرح.
حرس الله البلد الأمين وحفظه من كل مكروه.. إنه سميع مجيب.
الباحة