في غمرة عواصف الربيع العربي التي هبَّت خلال العام المنصرم على بعض الأقطار العربية، ثَمَّةَ أفكار كثيرة يمكن للمثقفين أن يقتطفوها من أغصان تلك العواصف الممتدة في آفاق الوعي، كما يمكن مناقشتها مناقشةً ثقافيةً هادئة جدا، بعيداً عن مساحة الغبرة الشاسعة التي ابتلعتْ بين حناياها رحابةَ الآفاق. ولعلَّ العلاقة بين الثورة والشعر تمثِّل فكرةً جميلة يمكن لنا أن ننفض عنها الغبار ونستصفيها من كلِّ الشوائب ونقدِّمها كاملة الصفاء على طبقٍ من وعيٍ شرقيٍّ جديد.
الثورة في أحد تعريفاتها المختصرة يمكن أن تكون ذلك الكائن الحيّ العاصف الذي يملأ الفجوة الهائلة ما بين السلطة والشعب حتَّى يعيد صياغة تضاريس العلاقة بينهما.
ولكن مقابل هذا القول الوصفي، يمكن تعريف الثورة أيضا على أنها حجم العمل النقدي الذي يمارسه المجتمع ويؤدِّي إلى قطع الاتصال بين المنهج القديم والمنهج الجديد في إدارة هذا المجتمع.
وقبل أن تحدث الثورة أو خلال حدوثها أو بعد الحدوث، هناك دائما ترابطٌ يتجلَّى في هيئة نضال إنساني تتواصل فيه الثورة مع المثقفين من أدباء وشعراء ومفكِّرين قد يختلفون أو يأتلفون في أهدافهم.
هناك الكثير من المفكرين -مثلاً- يتواصلون مع الثورة بحثا عن الفكرة التي تحملها هذه الثورة في أحشائها لأنَّ هؤلاء المفكرين مسكونون بهاجس الطرح الجديد أو البذرة التي انزرعتْ وتجذَّرتْ في تربة هذا الإعصار الطارئ.
لكنَّ علاقة الشعراء بالثورة أو علاقة الشعر بالنضال علاقة أعمق من ذلك بكثير لأنها لا تقوم على الهمّ الثقافي المحض، وإنما تقوم أيضا على الهمّ الإنساني الجمالي الأعمق الذي يتوقَّد بالروح الحميميَّة وكأنما بين الاثنين علاقة عشق جارف.
هناك الكثير من الشعراء العالميين والشعراء العرب الذين سجَّل لهم التاريخُ انحيازهم المطلق للثورات والثوَّار في أوطانهم وفي غير أوطانهم مثل الشاعر الأسباني لوركا والشاعر الشيلي بابلو نيرودا وغيرهم من الشعراء العالميِّين ناهيك عن الشعراء العرب مثل محمود درويش ومظفر النواب وغيرهم، ذلك لأنَّ طبيعة الشعر طبيعة ثوريَّة قائمة على تثوير اللغة وبركتنتها في شكل حمم مجازيَّة تنقذف من أعماق اللغة الشعرية وتمثِّل المعادل الفني لما يتفجَّر داخل روح الشاعر من الغضب وينقذف على هيئة كلمات، أو ما يتفجَّر داخل روح الثائر من التمرُّد وينقذف على هيئة فعل.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ لحظة انفجار الثورة هي لحظة كاشفة لأسرار كثيرة وتحمل عفويَّة البشر المؤمنين بقضاياهم، فهي تشبه إلى حدٍّ بعيد لحظة نزول الوحي الشعري وعفويَّة الشاعر في استغراقه الوجداني.
وقبل ذلك كلِّهِ وبعده، فإنَّ الشاعر هو الناقد بالقول، والثائر هو الناقد بالفعل، والثورة هي تحويل النقد من القول إلى الفعل، كما يقول شعراء الثورات.
هذا الترابط النبيل بين النضال والشعر هو الذي يدفع الشعراء للكتابة عن الثورات، خصوصا تلك التي تقوم من أجل تشريف الحياة وإعادة إنتاج الإنسان في شكلٍ أجمل لأنَّ معاناة الشعر ومعاناة النضال واحدة، والمعين بينهما واحد، وكلاهما له ذاكرة نضالية كبرى تحاول أن تكسر الحدود بين الممكن والمستحيل حتى الخروج من قبضة القدريَّة السياسية والاجتماعية على حدٍّ سواء، فالثوَّار والشعراء لهم صوتٌ واحدٌ ووطنٌ واحدٌ وخطوةٌ واحدةٌ على طريق الحريَّة، كما يقول الشاعر الثوريّ مظفر النوَّاب (الثوَّارُ لهم وجهٌ واحد في روحي).
الأحساء